:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات راسكين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات راسكين. إظهار كافة الرسائل

الخميس، يوليو 06، 2017

روبنز: هوميروس الرَّسم


أينما نظرت في تاريخ الفنّ، لا بدّ أن ترى أثرا لبيتر بول روبنز؛ الفنّان الذي يقال انه أوّل من رسم البورتريه الفخم وأوّل من ابتكر قوس قزح في الرسم.
من دون رسومات روبنز، كيف كان يمكن، مثلا، أن يتطوّر موريللو وفان دايك؟ وهل كان استشراق القرن التاسع عشر سيأخذ شكله المعروف لولا لوحات روبنز المبكّرة والمثيرة التي تصوّر مناظر صيد التماسيح والقطط الكبيرة ؟ وهل كان بيكاسو سيرسم غورنيكا لو انه لم يرَ مثال روبنز عن ويلات الحروب في لوحته عواقب الحرب ؟
يمكن اعتبار روبنز شخصا مميّزا واستثنائيّا. شخصيّته الساحرة وسلوكه المتّزن وسرعة بديهته وإتقانه للعديد من اللغات جعل منه أيضا دبلوماسيّا ومبعوثا مرموقا. حياته الخاصّة كانت متميّزة أيضا. كان وسيما، لائقا صحّيّا، وكاريزماتيّا وبعيدا عن الحسد والضغينة والتنافس.
والناس اليوم يشيرون إلى روبنز على انه "الفنّان الذي رسم كلّ ذلك العدد الكبير من صور النساء ". وأثناء حياته ولثلاثة قرون بعد وفاته، كان يُنظر إليه كنموذج للانجازات الفنّية والاجتماعية. وعلى العكس من معاصره رمبراندت الذي عانى وتعثّر كثيرا في حياته وكان مثالا للرومانسيّ البائس، كانت حياة روبنز مليئة بالنجاح والشهرة والمال.
كان روبنز قادرا على فعل كلّ شيء ما عدا شيء واحد: أن يجد طريقه إلى قلوب الانجليز. في أوربّا، ظلّ دائما يُعامَل باحترام كبير. أحد النقّاد الفرنسيين من القرن التاسع عشر قال عنه إن الطبيعة البشرية بأسرها في متناول فنّه، باستثناء الأفكار المثالية والسامية".
وقد استطاع أن يؤثّر على الكثيرين من معاصريه، مثل فان دايك وفيلاسكيز ورمبراندت، وترك بصمته على الكثيرين ممّن أتوا بعده.
لم يكن روبنز مجرّد رسّام غزير الإنتاج، بل كان أيضا دبلوماسيّا وجامع آثار وشخصيّة أوربّية جامعة استطاعت أن تتنقّل بسهولة بين قصور ملوك القارّة، بما فيها بلاط تشارلز الأوّل ملك انجلترا.
لكن كلّ هذا لم يُكسِبه محبّة البريطانيين الذين لم يكن يعجبهم النمط الأوربّي الناعم الذي كانوا يرونه في فنّ روبنز. وبوصفه أعظم رسّامي الشمال، فقد ظلّ الكثيرون ولزمن طويل ينظرون إليه باعتباره مخلب قطّ للمؤسّسة الكاثوليكية وخبير دعاية بارعا لها.
وفي بعض الأحيان، اُتّهم بأنه كان يدير مصنعا للرسم أنتج عددا كبيرا من أعمال الاستديو التي لم تكن تحمل سوى القليل من بصمة المعلّم، أي روبنز. كان من عادته أن يضع نموذجا مصغّرا للوحة ويرسم الوجه والذراعين، ثم يكلّف احد مساعديه بإتمام باقي المهمّة.
والانجليز ليسوا الوحيدين الذين كانوا ينظرون إلى روبنز وفنّه بتحفّظ، بل لقد انتُقد كثيرا من معاصريه بسبب أشكاله المشوّهة ووجوهه النمطية. كما أن ألوانه الحسّية وتوليفاته الدينية كانت سببا آخر للتشكيك في فنّه.
في القرن التاسع عشر، قال عنه فان غوخ انه سطحيّ وأجوف ومنمّق. وحتى مؤيّديه، والكثيرون منهم رسّامون وخبراء رسم، كانوا يشعرون غالبا بأنه من الضروريّ أن يقرنوا ثناءهم عليه بملاحظات ناقدة.
مثلا، كان اوجين ديلاكروا يعتقد أن روبنز حصل على شهرة يندر أن حظي بها رسّام آخر. لكن كان يأخذ عليه ملء فراغات لوحاته بأعداد كبير من الأشخاص والجميع فيها يتحدّثون في وقت واحد".


وحتى جون راسكين الذي كتب مُشيدا بعقلية روبنز وأصالة فنّه وتفوّقه حتى على تيشيان ورافائيل، أخذ عليه افتقار أعماله للجدّية وخلوّها من العاطفة الحقيقية.
غير أن كلّ هذه الانتقادات تظلّ في النهاية مجرّد أحكام عامّة ولا تنطبق على مجموع أعمال روبنز الكاملة والتي يفوق عددها الألف وخمسمائة صورة.
روبنز، بكلّ تنوّعه، موضوع كبير وواسع. صحيح انه رسم قصصا دينية، لكنه أيضا رسَم بورتريهات لبعض أعظم الأشخاص في زمانه. كما رسم مشاهد من الميثولوجيا الكلاسيكية ومناظر طبيعة مثيرة للذكريات وصورا مجازية من التاريخ القديم والمعاصر.
ولا يمكن أيضا نسيان صوره المعبّرة لمعارك وعمليات صيد عنيفة، ولا صوره العائلية التي رسمها بأقصى درجات الرقّة والإتقان.
ورغم انه كان من الناحية الفنّية رسّاما فلمنكيّا، إلا انه كان في نفس الوقت شخصيّة أوربّية شاملة منذ البداية. والده كان كالفينيّا (نسبة إلى المصلح البروتستانتيّ كالفين)، وقد هرب الأب من انتورب إلى كولونيا عام 1568 عندما وصل دوق ألبا لإعادة الكاثوليكية بحدّ السيف إلى الأراضي المنخفضة الاسبانية، ردّا على النفوذ المتصاعد للبروتستانتية.
روبنز نفسه وُلد في وستفاليا. وبعد فترة قصيرة من موت والده في عام 1587، عاد هو ووالدته إلى انتورب وتحوّلا إلى الكاثوليكية. ورغم تحوّله، إلا انه تلقّى تعليما كلاسيكيّا وإنسانيّا وتلقّى تدريبا فنّيّا على أيدي ثلاثة من أشهر رسّامي انتورب وقتها.
لكن أسلوبه لم يتبلور تماما إلا بعد رحلته إلى ايطاليا التي سافر إليها ما بين عامي 1600 و 1608، وهناك استطاع بفضل مواهبه الرسميّة والشخصيّة الوصول إلى بلاط دوق غونزاغا. ثم بدأ من هناك رحلته الكبيرة إلى فينيسيا وفلورنسا وجنوا وروما لكي يستنسخ بعض اللوحات لمصلحة الدوق.
ذائقة روبنز الفنّية كانت عالية كما تعكسها لوحاته التي رسمها في ما بعد والتي تأثّر فيها بفنّ ميكيل انجيلو وتيشيان وكارافاجيو.
كان دوق غونزاغا أوّل من اعترف بقدرات روبنز الدبلوماسية، فبعثه إلى اسبانيا عام 1603 مع عدد من الهدايا للملك فيليب الثالث. وقد عيّنه الملك رسّاما للبلاط قبل أن يتّخذ منه سكرتيرا له ومبعوثا شخصيّا.
وفي عام 1608، عاد إلى انتورب مع سريان هدنة حرب الإثني عشر عاما بين اسبانيا وانفصاليي جنوب هولندا في عام 1609. وقد شكّلت تلك الفترة بداية عصر جديد من السلام والنموّ الاقتصاديّ الذي استفاد منه روبنز، خاصّة مع الطفرة الكبيرة في بناء دور العبادة وترميمها وتزيينها.
ثم عُيّن روبنز بعد ذلك رسّاما لبلاط الأمير البيرت والأميرة ايزابيللا، الوكيلين الاسبانيين لأسرة هابسبيرغ في حكم بلاد الفلاندرز، وهي وظيفة أعفته من دفع الضرائب وسمحت له بتأسيس مرسم خاصّ به.
وفي تلك الفترة أيضا، اقترن بزوجته الأولى ايزابيللا برانت التي أنجب منها ثلاثة أطفال وعاش معها بسعادة في بيت اشتراه وأعاد تصميمه على الطراز المعماريّ الايطاليّ.
كان روبنز يقدّر موهبته الفنّية جيّدا ويعرف أنه مُهيّأ بالفطرة لرسم الأعمال الضخمة أكثر من الصغيرة. وما عزّز هذا الشعور في نفسه هو اتّصافه بمستوى عالٍ من التجاوز والإقدام الفنّي.


وكان محسودا من الكثيرين، ليس بسبب مهارته كرسّام فحسب، وإنّما أيضا بسبب خصاله ومناقبه التي مكّنته من النفاذ إلى داخل دوائر السلطة.
في أواخر 1620، كلّفته الأميرة ايزابيللا، باعتباره مستشارها السرّيّ، بالقيام بعدّة مهامّ لاستعادة العلاقات بين بلده هولندا وانجلترا. وكانت زيارته اللاحقة للندن ناجحة دبلوماسيّا وفنّيّا.
وأثمرت جهوده تلك، مع آخرين، في وضع نهاية للحرب الاسبانية الانجليزية عام 1630. وقد أنعم عليه تشارلز بلقب فارس، ثم كلّفه بإنجاز بعض المهامّ الفنّية، ومن بينها رسم سقف دار الضيافة في الوايتهول.
في ذلك الوقت، تخلّى روبنز عن وظيفته الدبلوماسية وقرّر أن يعود إلى الرسم وإلى زوجته الثانية والجديدة هيلينا فورمنت التي عقد عليها بعد وفاة زوجته الأولى ايزابيللا عام 1626. وكانت صوره التي رسمها في ما بعد لهيلينا من بين أعظم لوحاته، وقد منحته خمسة أطفال أصغرهم وُلد بعد ثمانية أشهر من وفاته.
إنتاج روبنز في العقد الأخير من حياته اتسم بطابع شخصيّ، وقد اكتفى برسم مناظر للريف والحياة القروية حول ضيعته الجديدة خارج انتورب. وفي تلك اللوحات رسَم الفنّان عالما من السلام والتوازن يتناقض كليّةً مع واقع أوربّا آنذاك، حيث كانت حرب الثلاثين عاما في ذروة استعارِها.
وبسبب مكانته كرسّام بارز في عصره، فإن مجموعة أعماله الكاملة أعيد استنساخها وتوزيعها بمختلف وسائل الحفر والنقش.
ووصلت طبعات صوره الدينية إلى كلّ زاوية من زوايا العالم الناطق بالاسبانية، واستخدمها المبشّرون في المستعمرات. ويمكن العثور على آثار من روبنز في كنائس القرى المتناثرة في أرجاء بيرو والمكسيك والفلبّين وغيرها.
كما ظهرت نسخة من إحدى لوحاته منقوشةً على إناء من الخزف الصينيّ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر.
وفي أوربّا نفسها، انجذب فنّانون كثر ومن جنسيات مختلفة إلى التنوّع الذي يميّز رسومات روبنز. فالانجليز أحبّوا لوحاته عن الطبيعة، والألمان أعجبوا بحيويّة صوره، والأسبان وجدوا في لوحاته الدينية مصدرا للإلهام، والفرنسيون ذُهلوا من مناظره الحسّية. واستمرّ هذا التأثير لزمن طويل.
أتباع روبنز الفرنسيّون كانوا كثيرين، من فاتو وبوشير وفراغونار إلى مانيه ورينوار وسيزان وغيرهم.
أما عندما يتعلّق الأمر برسم المناظر العنيفة، فإن روبنز كثيرا ما كان يُستخدم كموجّه ودليل. لوحته اصطياد نمر وفهد وأسد (فوق) تصوّر صراعا عنيفا حتى الموت بين بشر وحيوانات. وقد استلهمها رسّامون مثل رمبراندت وديلاكروا ولاندسير وبوكلين ورسموا مشاهد شبيهة.
ليس من الخطأ القول بأن لروبنز الفضل في ابتكار العديد من الأنماط الصُورية. لكن يجب أن نتذكّر أنه، هو نفسه، مدين لمن سبقوه من الرسّامين ممّن رأى أعمالهم في بداياته مثل ميكيل انجيلو ورافائيل وغيرهما.
وقد ظلّ يرسم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، عندما مات بمرض النقرس عام 1640 عن ثلاثة وستّين عاما. غير أن وفاته كانت مجرّد محطّة عابرة في "الروبنزية"، فقد استمرّ تأثيره ومثاله في أوربّا وفي العالم حتى اليوم.

Credits
peterpaulrubens.net
theguardian.com

السبت، مارس 07، 2015

خواطر في الأدب والفن

فجراً.. بعد غرق سفينة


رغم أن وليام تيرنر كان يخلق لوحاته من الإدراك وليس من العاطفة، إلا أن المتلقّي يمكن أن يتفاعل مع الجوّ الذي تثيره براعة هذا الرسّام في التحكّم في الضوء واللون والتوليف، كي يضيف إليها الانفعال المطلوب اعتمادا على القصّة التي يفترضها.
عبقرية تيرنر تتجلّى في انه كان يرسم فقط ما يراه، وعندما يرى ما يوحي باللون على شاطئ مبلّل وامتزاج ألوان السماء بألوان البحر، فإنه سرعان ما يحوّل ذلك الإيحاء إلى اللوحة. ثم تأتي مهمّة المتلقّي بعد ذلك، أي أن يأخذ من تلك الرؤية ما يريده.
إحدى لوحات تيرنر التي تدلّل على نضجه الفنّي هي هذه اللوحة المسمّاة فجرًا بعد غرق سفينة ، وهي عبارة عن منظر للشاطئ والبحر والسماء، مع جسم واحد ظاهر هو الكلب الصغير الذي يبدو وهو ينبح. المكان في المنظر هو على الأغلب شاطئ مارغيت في كنت، وهو المكان الذي كان الرسّام يقضي فيه معظم وقته في أربعينات القرن التاسع عشر.
الإشارة إلى غرق سفينة في العنوان توحي بأن هذه اللوحة لها قصّة تُروى. ومع ذلك لا وجود لأيّة سفينة غارقة في المنظر. هناك فقط العناصر الثلاثة، أي الأرض والسماء والبحر، بالإضافة إلى الكلب الوحيد.
ربّما كان على المتلقّي أن يستنتج تفاصيل القصّة في مخيّلته، وقد يكتفي بشرح جون راسكين الذي كان ناقدا ورسّاما مشهورا ومعاصرا لتيرنر. يقول راسكين في تعليقه على اللوحة: سفينة صغيرة، ناقلة فحم على الأرجح، غرقت في الليل، وكلّ من كانوا على متنها أصبحوا في عداد المفقودين، وهناك كلب وحيد على الشاطئ. انه يقف منهكا وهو ينبح ويرتجف، بينما ترسل سحائب الفجر أوّل خيوطها القرمزية. ويمكن رؤية اثر واهن لبقعة دم شاحبة على الرمال".
هناك احتمال بأن يكون راسكين قد قرأ في هذه اللوحة أكثر ممّا أراد تيرنر أن يودعه فيها. لكن هذا لا يهم، لأن قصّة راسكين محتملة وممكنة، تماما مثل قصص الآخرين، ومن بينهم تيرنر نفسه.
يقال أحيانا أن تيرنر كان أوّل رسّام انطباعي. لكن هذا ليس حقيقيّا، لأن تيرنر لم يكن يرسم انطباعات، وإنّما مشاهد حقيقية. وكان على المتلقّي أن يسجّل انطباعه عمّا رآه. وهذا هو السبب في أن هناك عددا لا يُحصى من القصص التي يمكن أن تحكيها هذه اللوحة. وكلّ منها شخصيّ بالنسبة للمتلقّي، ويمكن أن تتغيّر من حالة لأخرى، تماما مثلما يتغيّر المشهد في كلّ مرّة ننظر إليه.
ولو أزلنا الكلب من اللوحة، فسيكون المنظر أشبه ما يكون بصورة التقطها مصوّر هاوٍ، وستصبح اللوحة مملّة لدرجة أن بعضنا قد يندمون على صرف وقتهم في مشاهدتها.
البحر في صورة تيرنر هذه لا يفعل شيئا استثنائيّا، وكلّ ما يمكن رؤيته هو موجة صغيرة تتكسّر على الشاطئ. السماء صفراء مع سحب منخفضة. ويمكن ملاحظة زاوية الشمس وهي تنبلج من بين الغيوم لترسل شعاعا خفيفا ينعكس على الرمال المبلّلة.
وهناك أيضا بقعة من الأحمر. راسكين توقّف عند هذه البقعة واصفا إيّاها ببقعة الدم. كان يدرك أن تيرنر كان يرى في اللون القرمزيّ الأحمر رمزا للدم والموت. وهذه البقعة في أعلى وأسفل المنظر تشكّل إطارا مع البحر في الوسط.
في اللوحة يبدو البحر الآن بريئا بما فيه الكفاية. غير انه يخبّئ سرّا قاتلا. وحده الكلب هو الذي نجا من بين جميع ركّاب السفينة المنكوبة، ورأسه وجسمه يشيران إلى الأحمر، بينما ينبح السماء كما لو انه يحكي لها قصّة المأساة التي حدثت للتوّ في البحر.
هناك في هذا المشهد الكثير ممّا يجري، أكثر ممّا يمكن لك أن تكتشفه من النظرة الأولى.

❉ ❉ ❉

ريو: أنا اعزف إذن أنا موجود


كنت وما زلت من المعجبين بأسلوب اندريه ريو في ترجمة المعزوفات الكلاسيكية المشهورة وتقديمها في قالب عصريّ سهل ومفهوم.
اسم عائلة "ريو" يشي بأصولها الفرنسية. وقد هاجر أسلافه من اوفيرن في فرنسا إلى هولندا قبل أكثر من ثلاثة قرون.
أما اندريه نفسه فقد ولد في بلدة ماستريخت الهولندية التي يمتلك فيها اليوم منزلا خاصّا يليق بالملوك. والمنزل عبارة عن قلعة تاريخية تعود إلى القرون الوسطى وتتألّف من أكثر من عشرين غرفة وتطلّ على ضفّتي نهر ماس.
وعائلة ريو كلّهم تقريبا موسيقيّون. وقد سبق لوالده أن عمل كمايسترو لأوبرا ليبزيغ بألمانيا، بينما تلقّى جميع أشقّائه الستّة تدريبا موسيقيّا.
اندريه ريو ما يزال يفضّل موسيقى الفالس الراقصة على ما عداها. وربّما كان هذا النوع من الموسيقى ذات المسحة الرومانسية هو الذي فتن عشرات آلاف النساء اللاتي يبعثن له برسائل الإعجاب مع هواتفهن وصورهن. كما أنهنّ يشترين موسيقاه أوّلا بأوّل ويحضرن حفلاته وبعضهنّ يتتّبعن خطاه من مدينة لأخرى.
وهناك من النقّاد من يقولون أن ما جعل اندريه ريو مشهورا ومعروفا في كلّ مكان تقريبا هو عدوى النساء المهووسات بالحبّ.
ذات مرّة عزف ريو مقطوعة الفالس الثانية لشوستاكوفتش. وجريا على عادته، أدخل عليها بعض التعديلات. تركيزه على إظهار كم أن هذه القطعة هادئة وبنفس الوقت مؤرّقة فاجأ زملاءه الموسيقيين في هولندا وفي أوربّا الذين رأوا في طريقة توزيعه لها أمرا مثيرا للاهتمام.
يقول ريو إن من الوجوه التي لا ينساها أبدا صورة الممثّلة اوليفيا هاسي التي ظهرت في فيلم روميو وجولييت من إخراج الايطالي فرانكو زافاريللي والتي يقول إنه حمل جمالها معه إلى أحلامه. كما انه ما يزال إلى اليوم مفتونا بالمقطع المشهور في الفيلم "فوق" والذي ألّفه الموسيقيّ الايطالي نينو روتا . وفي ما بعد عزف ريو هذا المقطع وضمّنه إحدى مجموعاته.
شعار اندريه ريو هو: أنا اعزف إذن أنا موجود". وقد أصبح من عادته أن ينهي كلّ حفلة له بقوله: من يدري، ربّما نلتقي ثانية"!

❉ ❉ ❉

الجبال والطقوس


فكرة الحجّ في الأديان تتضمّن شيئا أكبر وأكثر تعقيدا من مجرّد التقوى أو الرغبة في التوبة. بانفصالك عن الوطن، كما يفعل الناس في الحجّ، أنت تعترف ضمنا أن رحلتك هي محطّة على طريق وجودك. وأحيانا يكون الحجّ استعدادا للموت.
لاحظ كيف أن طقوس الحج في جميع الديانات تتضمّن شيئا من صعود الجبال: سيناء، الأوليمب، جبل الرحمة، الهمالايا.. إلى آخره. الصعود إلى فوق، إلى قمّة الجبل، هو نوع من الاقتراب من الله ومن المقدّس. وفكرة الارتفاع إلى فوق للقاء الإله مندمجة بعمق في اللغة التي نتكلّمها، ومن ثمّ في الطريقة التي نفكّر بها، سواءً عندما نتحرّك لأعلى أو ننزل لأسفل.
المعروف انه في أوربّا، وحتى وقت قريب، كان الناس ينظرون إلى الجبال كأجسام مرعبة. لكن في أواخر القرن الثامن عشر، بدءوا ينظرون إليها كأماكن للعبادة وانعكاس لعظمة الله. وهناك من الروحانيين من يعتقد بأن الجبال ليست في واقع الامر سوى بوّابات تقود إلى عوالم خفيّة ومجهولة.

❉ ❉ ❉

متحف روبنز


هذه الصورة هي لغرفة في منزل الرسّام الهولندي العظيم بيتر بول روبنز في انتويرب والذي تحوّل في ما بعد إلى متحف.
كان روبنز قد اشترى المنزل بعد عودته من ايطاليا حوالي العام 1606. وقد قام بزخرفته وحوّله إلى واحد من أكثر منازل عصر الباروك أناقة في الأراضي المنخفضة وأضاف إليه حديقة جميلة ومدخلا فخما.
في هذا البيت أبدع الرسّام أشهر وأعظم لوحاته. وقد زاره هنا رسّامون ودبلوماسيون ومحبّون للرسم وجامعو فنّ وعلماء. وكان من بين زوّاره الأمير الاسباني البيرت وزوجته ايزابيللا.
روبنز لم يكن فقط أحد أعظم الرسّامين في العالم الغربي، لكنه كان أيضا من هواة جمع اللوحات. كان شخصا يؤمن بالأفكار الإنسانية، وقد أنعم عليه كلّ من فيليب الرابع ملك اسبانيا وتشارلز الأوّل ملك انجلترا بلقب فارس.
وفي الواقع، كان روبنز مدركا لمكانته في العالم، لدرجة انه رسم نفسه ذات مرّة وفي يده سيف حتى قبل أن يُمنح تلك الرتبة.

❉ ❉ ❉

أقوال


جولة سريعة أخرى في بعض ما نُشر في مواقع التواصل وغيرها خلال الأسابيع الماضية..

  • إسأل نفسك الآن كم تُخفي في داخلك عن الآخرين حتى لا تُتّهم بالجنون أحيانا، أو بالغباء أحيانا، أو بمخالفة الأعراف الاجتماعية أحيانا أخرى؟
  • إذا كان السؤال محرّما فكيف تطمع في الحصول على إجابة؟ ويل لأمّة تحرّم الأسئلة! تحريم الأسئلة لا يعني العجز عن الجواب فحسب وإنّما أيضا الإجبار على الجهل!
  • يجب أن يكون الهدف الأسمى لأيّة ديانة، ليس إدخال الناس إلى الجنّة، وإنّما إدخال الجنّة إلى قلوب الناس.
  • لم أعرف في حياتي أسوأ من نساء يحتقرن أنوثة المرأة ويشكّكن في أهليتها ويقفن بالمرصاد ضدّ حقوقها ويتخندقن مع الموسوسين ضدّ بنات جنسهن.
  • الوسطي مشغول بعلاقته مع الله، والمتشدّد مشغول بعلاقة جاره مع الله!
  • جمال بن عمر لليمن. دي ميستورا لسوريا. برناردينو ليون لليبيا. يبدو أن كلّ دولة عربية سيكون لها مندوبها الأممي. إنها مندبة كبرى!
  • الله كم في الخلق من صَبّ ومن عاني
    تفنى القلوبُ ويبقى قلبكِ الجاني
    صوني جمالكِ عنّا إننا بشر
    من التراب وهذا الحسنُ روحاني!
  • خيرٌ لك أن تقضي وقتك في السعي لإدخال نفسك الجنّة، على أن تقضيه في إثبات أن غيرك سيدخل النار.
  • عندما يتصرّف الإنسان بعفوية وبحسن نيّة يقع بمشاكل لا يفهمها، لأن حجم الطيبة والنقاء الذي بداخله لا يصل إلى مستوى اللؤم والدناءة التي لدى الآخرين.
  • لو أن أدعية الداعين مستجابة، لمحق الله الكافرين ومزّق شملهم ولم يبق منهم احد منذ دهور طويلة، ولورثنا كوكبا لا تسكنه إلا الجماعات المجاهدة!
  • عندما نراجع حياتنا نجد أن أجمل ما حدث لنا كان مصادفة، وأن الخيبات الكبرى تأتي دائما على سجّاد فاخر نسجنا خيوطه بأيدينا.
  • قسوة بعض القلوب تعود إلى العجز عن تذوّق الفنون الجميلة. وغياب الترفيه اخرج لنا أجيالا إرهابية صرنا نصدّرها إلى جميع أرجاء العالم!
  • داعش لم تعد مجرّد شرذمة من المجرمين، بل أصبحت حالة فكرية يتعاطف معها كلّ متخلّف معتوه مغيّب العقل يريد العودة بأوطاننا إلى عصور الظلام.
  • هؤلاء الذين لا يقدّرون قيمة الأوطان أولى بهم أن يعيشوا في الخرائب.
  • عندما تعجز النفس عن رؤية الأحبّة، فإنها تشتاق لهم بصمت مؤلم. إيّاك أن تظنّ أن الصمت نسيان، فالأرض صامتة ولكن في جوفها ألف بركان.
  • وأنت تستعدّ لأداء الصلاة، إغسل قلبك من كلّ بغض وحقد تجاه الآخرين، نظّف روحك من كل طائفية وعنصرية، توضّأ بماء السلام والتعايش وتوكّل على الله.
  • إذا دخلت بيتا قديما رحل عنه أهله، ستسري في بدنك قشعريرة غامضة. أنت لست في العراء، فالبيوت المهجورة تنبض بأرواح الراحلين. ثمّة أصوات وآثار وخُطى.
  • التشدّد في حدّه الأدنى مماحكة وعنَت وتعطيل للحياة. وفي حدّه الأعلى إرهاب وحزّ رقاب وتفجير وتدمير للحياة.
  • مشكلة سقف الحرّية أنك لا تراه إلا عندما ترتطم به!
  • في لنا يا حبّ خيمة ع الجبل
    ناطرة تا نزورها بليلة غزل
    راكعة الغيمات عند بوابها
    وتاركة النجمات ع سطحا قُبَل
  • لا شيء يعود كالسابق. إحفظ هذه العبارة جيّداً قبل أن تكسر شيئاً جميلا.

    Credits
    thearttribune.com
    rubenshuis.be
    wsj.com
  • الخميس، يناير 30، 2014

    محطّات

    من مفكّرة ديلاكروا

    في عام 1832، سافر الرسّام الفرنسيّ اوجين ديلاكروا إلى المغرب واسبانيا في بعثة دبلوماسية بعد وقت قصير من احتلال فرنسا للجزائر. وكان ذهابه إلى هناك، ليس لدراسة الفنّ، وإنما كي يهرب من حضارة باريس وعلى أمل أن يرى ثقافة أكثر بدائية.
    ديلاكروا سجّل في مفكّرته بعض مشاهداته في تلك الرحلة التي حدثت قبل اختراع السيّارة، أي عندما كان الناس يسافرون على ظهور الخيل والجمال والبغال. هنا مقتطفات ممّا كتبه..
  • بعد مسيرة ساعتين، لاح لنا البحر. وفي القرب رأينا مجموعة من أشجار الصبّار والخيزران، ولمحنا بقعا من العشب البنّي على الرمال. عند عودتي، تذكّرت التباين المدهش بين أشجار الخيزران الصفراء والجافّة وبين بقيّة الأشجار الخضراء. في هذه الناحية، تميل ألوان الجبال إلى البنّي المشوب بخضرة، مع خطوط من الشجيرات الداكنة والضئيلة.
  • رأينا في الطريق مشهدا مثيرا لحصانين، رماديّ وأسود، وهما يتعاركان مع بعضهما البعض. منذ البداية، كانا يتوقّفان قليلا ثم لا يلبثان أن يواصلا قتالهما بضراوة، ما جعلني ارتجف. غير أن ما رأيته كان يستحقّ الرسم. وأنا على يقين من أنني رأيت أكثر الحركات روعة ورشاقة، بما لا يمكن أن يتخيّله حتى روبنز . الحصان الرماديّ لفّ عنقه حول الحصان الآخر لفترة بدا أن لا نهاية لها. كان من المستحيل أن يطلقه. لكن مورني تمكّن أخيرا من الفصل بينهما. وبينما كان ممسكا باللجام، تراجع الحصان الأسود بشراسة، بينما ظلّ الحصان الآخر يعضّه في الخلف بعنف.
    سمحنا بعد ذلك للحصانين بأن يمضيا. لكنّهما استمرّا يتقاتلان فيما هما متّجهان إلى النهر. ثم سقط الاثنان في الماء بينما واصلا عراكهما. وفي نفس الوقت كانا يحاولان الخروج من الماء، وكانت أقدامهما تنزلق في الوحل.
  • في طريق عودتنا، لاحت لنا طبيعة رائعة إلى اليمين: جبال إسبانيا وهي تكتسي بأجمل ألوانها، ثم البحر الذي بدا أزرق تشوبه خضرة داكنة.
  • في يوم الثلاثاء ذهبنا لحضور حفل زفاف يهودي. كان هناك عرب ويهود يقفون عند المدخل. وكان هناك أيضا موسيقيّان، احدهما عازف كمان. وإلى جواره جلست امرأة يهودية جميلة بسترة من القطيفة وأكمام مذهّبة. كان ظلّ المرأة يلوح في منتصف الطريق إلى الباب. وبالقرب منها جلست امرأة أخرى اكبر منها سنّا بملابس بيضاء بالكامل وتغطّيها تماما.
  • صحونا حوالي الثامنة صباحا. تسلّقنا تلّة، والشمس إلى يسارنا. الجبال واضحة المعالم جدّا، واحد وراء الأخر، وفوقها سماء صافية. وقد وجدنا في طريقنا قبائل مختلفة. الرجال يطلقون البنادق وهم يتقافزون في الهواء. وصعدت جبلا في لاكلاو. كان المنظر خلابا للغاية. وتوقّفت للحظات. المنظر رائع من أعلى قمّة الجبل. مشينا نصف ساعة إلى أن بلغنا المخيّم.
  • الجلابية هي زيّ عامّة الناس ولباس التجّار والأطفال. أتذكّر أنّني سبق وأن رأيت جلابية على شخص صغير في اللوفر. أطفال المدارس في هذه الناحية يكتبون دروسهم على ألواح. وفي لحظات الراحة، يذهبون في مجموعات حاملين معهم هذه الألواح على رؤوسهم.
  • في الحيّ اليهودي، رأيت بعض التصميمات الداخلية الرائعة أثناء مروري من هناك. وكانت امرأة يهودية تقف مرتدية قلنسوة حمراء وثيابا بيضاء وسوداء.
  • هذا هو اليوم الأوّل من رمضان. في اللحظة التي ظهر فيها الهلال، وكنّا ما نزال في وضح النهار، أطلقت المدافع نيرانها احتفاءً بالمناسبة. وفي هذه الليلة، كانت هناك ضوضاء رهيبة مع قرع طبول ونفخ أبواق مصنوعة من قرون الخراف. وبرز من بين الحشود رجل أخذ يطلق النار باتجاهنا من مسافة قريبة. لكن تمّ إلقاء القبض عليه فورا. كان غاضبا. ثمّ سُحب من عمامته وطُرح أرضا.
  • ❉ ❉ ❉

    ❉ ❉ ❉

    طبيعة من عالم آخر
    التلوّث الضوئي في المدن الكبيرة يُفقد الإنسان الإحساس بالدهشة وبجمال السماء الليلية. ولهذا السبب، لن تعدم أحيانا من ينصحك، ومعه حقّ، بأن تغادر المدينة باتجاه مناطق الأطراف يوما أو يومين في الشهر حيث الأفق المفتوح والأجواء الصافية، كي تنعم برؤية السماء وتستمتع بأنوار القمر والنجوم.
    وهناك اعتقاد بأن أجمل سماء ليلية في العالم هي تلك التي تعلو صحراء أتاكاما في شيلي. ففيها يمكن أن ترى ثلاثة آلاف نجم بوضوح، كما أنها تخلو من التلوّث الضوئي وتغيب عنها الغيوم طوال معظم السنة.
    في هذا الفيديو "فوق"، سترى طبيعة من عالم آخر وسماء ليلية صافية فوق أتاكاما، أي نفس المكان الذي اختاره المرصد الأوربّي الجنوبي ليبني عليه تلسكوباته المصفوفة الهائلة التي تسمح للفلكيين بالحصول على أفضل مناظر للكون من على الأرض.
    هذا المكان يُعتبر مثاليّا لمراقبة السماء والنجوم والظواهر الفلكية. طبيعة الليل ووتيرة حركة الأشياء مختلفة فيه عن أيّ مكان آخر من العالم. كما أن مناخه متطرّف للغاية، فهو حارّ جدّا نهارا وبارد جدّا ليلا.
    الفيديو قام بتنفيذه بطريقة الفاصل الزمني مصوّر يُدعى نيكولاس بور. وهو محصّلة لمجموعة من الصور التي التقطها على مدى 12 يوما وليلة. بور يصف هذا المكان المرتفع والمدهش بقوله إن أتاكاما صحراء معروفة جيّدا بأن سماءها هي الأكثر صفاءً والأشدّ ظلاما وحلكة على الأرض.
    الهواء الجافّ وصفاء الأفق والارتفاع، كلّها عوامل تتيح سماءً ليلية لا تشبهها سماء أخرى. وقد زارها المصوّر عندما كان كوكب الزهرة قريبا جدّا من مركز مجرّة درب التبّانة، وهو حدث فلكيّ لا يقع إلا مرّة كلّ 8 سنوات أو نحو ذلك.
    كما تزامنت زيارته لهذا المكان مع الاعتدال الخريفيّ الذي يُعتبر وقتا مناسبا لرؤية ظاهرة الضوء البروجي أو "الفجر الكاذب كما يُسمّى بالعربية"، وهو عبارة عن ضوء ينتشر في السماء في المناطق المظلمة وقبل شروق الشمس نتيجة تناثر الغبار الكوني المتناهي الصغر بين الكواكب في الفضاء بتأثير أشعّة الشمس.
    يمكن مشاهدة نسخة فائقة الوضوح من فيلم نيكولاس بور في موقع فيميو على هذا الرابط .

    ❉ ❉ ❉

    راسكن: الفنّان والمعلّم

    إن كنت تبحث عن معلومة أو فكرة يمكن أن تضيف شيئا إلى معرفتك عن لوحة أو رسّام معيّن من القرن التاسع عشر خاصّة، فسيصادفك اسم جون راسكن كثيرا. وهذا حدث معي أكثر من مرّة. لكن مع مرور الوقت اكتشفت أن راسكن لم يكن ناقدا فنّيا فحسب، بل كان أيضا رسّاما وشاعرا ومفكّرا اجتماعيا بارزا وراعيا للفنون وشخصا مُحسنا.
    صحيح أن اهتمامه كان مركّزا، خاصّة، على أمور الفنّ والأدب، لكنّ اهتماماته امتدّت لتشمل مواضيع وفروعا معرفية أخرى كالجيولوجيا والأساطير وعلم الطيور والمعمار وعلم النبات والاقتصاد السياسي والتعليم. باختصار، كان راسكن يتمتّع بثقافة موسوعية.
    وقد توقّفت لبعض الوقت عند آرائه عن التعليم والتي تستحقّ التأمّل. فهو يرى مثلا أن وظيفة التعليم الحقيقية ليست فقط جعل الناس يتعلّمون ويفعلون الأشياء الصحيحة، وإنما أيضا أن يحبّب إليهم المعرفة ويزرع في نفوسهم تعطّشا دائما للحبّ والعدل والحرّية.
    كان راسكن ينظر إلى التعليم باعتباره جزءا لا يتجزّأ من الحياة والسياسة والأخلاق. وكان يَعتبر أن تعليم الأطفال الصدق والنزاهة هو بداية أيّ تعليم، وأننا إذا أصلحنا المدارس فلن نجد سوى القليل مما يتعيّن إصلاحه في السجون.
    ولد جون راسكن وعاش في انجلترا الفيكتورية في القرن التاسع عشر. وقد عمل طوال حياته على تعميق تقدير الناس للفنون والآداب، وهذا بدوره قرّبه من هموم وشجون التعليم. كان يحبّ الرسم كثيرا، ولطالما حرص على تزيين صفحات رسائله وكتبه برسومات توضيحية من عمله هو. كما رسم اسكتشات ولوحات مفصّلة عن الصخور والنباتات والطيور والمناظر الطبيعية والهياكل المعمارية. وكان يشدّد دائما على الربط ما بين الطبيعة والفنّ والمجتمع.
    كتابه بعنوان "الرسّامون المعاصرون" قالت عنه الأديبة المعروفة تشارلوت برونتي انه أزاح عصابة كانت على وجهها ومنحها عينين جديدتين، وهذا أعظم ما يمكن أن يفعله إنسان في هذا العالم.
    وأخيرا تُنسب إلى جون راسكن عبارات مأثورة كثيرة تتناول آراءه في الحياة والناس مثل قوله: من الأفضل أن تخسر كبرياءك من اجل شخص تحبّه على أن تفقد ذلك الشخص بسبب كبريائك العديمة الفائدة".
    وقوله: إن شروق الشمس جميل، والمطر منعش، والرياح تجعلنا متأهّبين، والثلج يبهجنا. ليس هناك شيء اسمه "أحوال جوّية سيّئة". هناك فقط أنواع مختلفة من الطقس الجيّد".
    وقوله: تذكّر أن أجمل الأشياء في هذه الحياة هي تلك التي يعتبرها الناس، عادة، عديمة المنفعة؛ الطاووس والزنبق مثلا".

    ❉ ❉ ❉

    إيقاعات موسيقية

  • من القصائد الكلاسيكية المغنّاة التي تغريك بسماعها مرّة بعد أخرى هذه الأغنية للمطرب الكبير الراحل عوض الدوخي. ورغم أنها ليست بمستوى شهرة بعض أغاني الدوخي الأخرى مثل صوت السهارى ويا ساهر الليل ويا من هواه وصبا نجد، إلا أنها تتميّز، هي أيضا، بجمال كلماتها وأصالة لحنها الذي يذكّرك بموسيقى الملحّنين الكلاسيكيين العرب الكبار.
    عوض الدوخي بالمناسبة أدّى كافّة أشكال الغناء. كما تغنّى ببعض ألحانه كبار المطربين العرب مثل فايزة احمد التي غنّت له صوت السهارى والمطربة العراقية مائدة نزهت التي غنّت له لا باس يا ترف الحشا وصبا نجد. صوت الدوخي فيه شجن وتوق وحزن شفيف، يذكّرك برائحة البحر ومناظر المراكب والغوص وبالأيّام الخوالي.
    وإذا أعجبتك "طال الصدود" فقد تجد في هذه الأغنية أيضا ما يطربك أو يثير بعض اهتمامك بإيقاعها المرح وموسيقاها البديعة. لاحظ أيضا التداخلات والحركات الرائعة لآلة الأكورديون فيها..
  • أحيانا تستمع إلى بداية أغنية ما فتُعجَب بالموسيقى ويشدّك أداء المطرب. لكن بعد قليل، سرعان ما تلاحظ أن اللحن لا ينمو بشكل طبيعي ولا يتناغم بالضرورة مع الكلمات.
    هذه الأغنية للفنّان الكبير أبو بكر سالم هي مثال على الأغاني التي تبدأ بداية قويّة وواعدة ولكنها لا تلبث أن تأخذ مسارا آخر مختلفا بعد المقطع الأوّل. الأغنية، أيّة أغنية، عادة ما يتعثّر لحنها ويتوه عندما يحاول المغنّي مجاملة الشاعر وإرضاءه بتلحين كلّ ما يكتبه من كلام حتى لو كان بعضه مجرّد حشو لا معنى له.
    "لا تنادي" أغنية جميلة، لكن جمالها لا يتجاوز المقطع الأوّل. وكان بالإمكان اختصارها لأربع دقائق بدلا من هذا التطويل المملّ والعكّ الشعريّ والموسيقيّ غير اللازم.
    ومع ذلك يظلّ أبو بكر سالم واحدا من الأسماء اللامعة في سماء الأغنية الخليجية والجزيرية. وأتذكّر الكثير من جمله اللحنية الرائعة التي لا يمكن أن يتوصّل إليها سوى فنّان على قدر عال من الإبداع والحساسية. استمع إلى هذه الأغنية كمثال.
  • لطالما اكتشفت أننا، أبناء هذا الجيل، منقطعون إلى حدّ كبير عن تراثنا الموسيقيّ والغنائي في منطقة الخليج والجزيرة العربية، في حين أن هذا التراث يحوي ثروة هائلة من الموسيقى والمقامات وأشكال الغناء المختلفة والمتعدّدة.
    المشكلة أننا أحيانا لا نتذكّر مطربي الماضي إلا على سبيل تذكّر زمن أبائنا ومقارنته بزمننا، وليس من باب محاولة تذوّق أعمالهم ونقدها وكيف تبدو في سياق زمني مختلف.
    الرعيل الأول من مغنّيي الخليج والجزيرة معظمهم كانوا مناضلين بامتياز، خصوصا النساء، لأنهم أصرّوا على الاشتغال بالفنّ والموسيقى فنشروا الجمال وارتقوا بمشاعر الناس وحاولوا ترويض العنف الكامن في النفوس، متحدّين أفكار التطرّف الديني والأعراف الاجتماعية البالية، ولقوا في سبيل ذلك صنوف العنت والمشقّة.
    من هؤلاء المطربان الراحلان عبدالله فضالة وحمد الطيّار. اسمع الأوّل وهو يؤدّي هذه القصيدة الجميلة من شعر الياس فرحات. واستمع إلى الثاني في هذه الأغنية التي تُعتبر أشهر أعماله.
    على فكرة، عبدالله فضالة ينتمي لعائلة كويتية متديّنة. وكان أبوه يريده أن يصبح رجل دين، لكنه فضّل دراسة الموسيقى. وقد قرأت منذ أيّام مقابلة صحفية قديمة أجريت معه عام 1967، أي نفس العام الذي توفّي فيه. ولفتني قوله: كنت اذهب إلى حفلات السمر وأغنّي فيها. تلك الأيّام أحسن من أيّامكم هذه. كلّ شي عندكم الآن ما يجوز وحرام"!
    هذا الكلام قاله الفنّان قبل أكثر من أربعين عاما. ترى ما الذي يمكن أن يقوله لو بُعث إلى الحياة من جديد ورأى كيف أصبحنا اليوم بفضل أفكار المتشدّدين الظلاميين الذين يعادون كلّ قيمة جميلة وراقية في الحياة؟!
    تأمّل آخر صورة في الرابط الأخير واشكر الله على نعمة العقل!
  • الخميس، يناير 06، 2011

    الفنّ ما قبل الرافائيلي

    تأسّست جماعة الفنّانين ما قبل الرافائيليين في خريف عام 1848 على يد مجموعة من الرسّامين والشعراء والنقّاد الانجليز. وكان ظهور الحركة ردّ فعل على النزعة الفيكتورية نحو المادّية وعلى الأفكار النيوكلاسيكية التي كان يتبنّاها الفنّ الأكاديمي.
    وقد تقرّر اختيار هذا الاسم بالنظر إلى سعي الجماعة إلى إعادة اكتشاف أساليب الرسم التي كانت شائعة قبل زمن الرسّام الايطالي رافائيل.
    ووصل الفنّ ما قبل الرافائيلي إلى ذروته مع ظهور لوحة اوفيليا لـ جون ميليه التي حقّقت شهرة عظيمة عند عرضها لأوّل مرّة عام 1852م.
    كان الرسّامون الثلاثة المؤسّسون لمدرسة الفنّ ما قبل الرافائيلي هم جون ايفرت ميليه ودانتي غابرييل روزيتي ووليام هولمان هانت.
    وكان هدفهم المعلن من وراء تأسيس الحركة هو البحث عن مواضيع وأفكار جادّة وحقيقية للرسم. وقد استمدّوا مواضيع لوحاتهم من الكتب الدينية والأفكار الاجتماعية السائدة في زمنهم. كما حرصوا على تصوير الطبيعة بعناية ودقّة دون تمجيدها أو رسمها بصورة مثالية ودون مراعاة للقواعد الأكاديمية المتّبعة في التصميم والتلوين.
    وقد بدأ الفنّانون ما قبل الرافائيليين في رسم موضوعات مستوحاة من الشعر والقصص الرومانسية ومن التاريخ وخيالات القرون الوسطى. ووجدوا بهجة في الألوان الحسّية الرائعة وضمّنوا لوحاتهم رسومات لشخصيّات في أوضاع عاطفية ومنمّقة مع رمزية غامضة.
    وكان تمردّهم في البداية هدفا لهجوم من الروائي تشارلز ديكنز وغيره من الكتّاب الذين وصفوا نتاجهم بالفنّ الهابط. لكنّهم وجدوا نصيرا قويّا في شخص الناقد جون راسكين الذي وفّر لهم علاقات صحفية قويّة وتوجيها مهنيا، على الرغم من انه كان يفسّر أعمالهم بطريقة محرّفة وكثيرا ما كان يثير امتعاضهم بنصائحه المتفذلكة.

    كان الفنّانون ما قبل الرافائيليين في أغراضهم وأساليبهم النقيض الكامل للانطباعيين. فقد كانوا يلجئون إلى الكتب والشعر ويبشّرون بالأخلاق ويستخدمون الضوء بطريقة خطابية. بينما كان الانطباعيون يُعنون بتصوير المتع اليومية واستكشاف وتحليل الخواصّ العلمية والجمالية للضوء.
    ورغم أن الما قبل الرافائيليين ارتادوا آفاقا جديدة في الواقعية المادّية والألوان البرّاقة، إلا أنهم حاربوا الفنّ الأكاديمي المبتذل والمتكرّر بفنّ متخم ووعظيّ خاصّ بهم. صحيح أن ابتكاراتهم التقنية كانت واضحة. لكنّ المتلقّي لا يستطيع أن يهضم أعمالهم إلا إذا حاول التغافل عن درجة العاطفة المفرطة فيها.
    كان الشخص الأكثر شعبية ونجاحا بين فريق مؤسّسي الفنّ ما قبل الرافائيلي هو الطفل المعجزة جون ايفرت ميليه (1829-1896)، الذي أصبح في نهاية المطاف رئيسا للأكاديمية الملكية. وقد كافأ ميليه الناقد جون راسكين على دعمه للمجموعة بالهرب مع زوجته الجائعة عاطفيا ايفي غراي في عام 1853م.
    والحقيقة انه ليس بالإمكان تجاهل لوحات ميليه المنفّذة بشكل أنيق لفتيات جميلات ولمشاهد مستوحاة من كتب الأدب، عندما كان يتعامل مع الألوان الزيتية حصرا.
    الشخص الثاني في الجماعة من حيث الأهمية كان دانتي غابرييل روزيتي (1828-1882) الذي كان ابنا لثائر إيطالي. كان روزيتي الزعيم الفكري للجماعة. كما كان مسئولا عن دعمهم ومساندتهم باعتبارهم "جماعة سرّية". وقد درس الرسم في كنغز كوليج في لندن. لكنه كان يقضي وقتا أطول في كتابة الشعر. وكان يعتبر نفسه رسّاما شاعرا ويتّخذ من وليام بليك نموذجه المفضّل.
    كان روزيتي يعرض في لوحاته الارتباطات الأدبية القويّة التي رافقت الحركة منذ بداياتها. وقد درج على تجنّب المواضيع الدينية لصالح الأساطير الشعرية. ويُعزى إليه الفضل في انه مهّد الطريق لحالة الهوس بالمواضيع المستلهمة من قصص القرون الوسطى والتي كرّستها الموجة الثانية من الفنّانين ما قبل الرافائيليين.
    ومثل معظم أقرانه، أصبح روزيتي على علاقة سيّئة بـ جون راسكين الذي كلّفه برسم لوحة ثم أمره بأن يعيد رسمها مرّة تلو أخرى إلى أن نالت رضاه.

    في العام 1850 قابل روزيتياليزابيث سيدال التي أصبحت "أميرته العذراء" وموديله المفضّلة. وقد تزوّجا بعد عشر سنوات من العيش معا. لكنّ سيدال لم تلبث أن توفّيت بعد الزواج بعامين إثر تناولها جرعة زائدة من صبغة الأفيون.
    وفي عام 1871 هوجم روزيتي بضراوة في مقال كتبه شخص مجهول واصفا إيّاه بأنه "شاعر شهواني وعديم الأخلاق".
    وبعدها أصبح روزيتي شخصا انطوائيا ومتشكّكا وبدأ في تعاطي الأدوية المهدّئة. ورغم ذلك، تضاعف نجاحه في نهاية حياته ورسم العديد من اللوحات الزيتية التي تصوّر نساءً جميلات، في ما بدا وكأنّه محاولة حزينة لتذكّر سيدال.
    ثالث الأعضاء المؤسّسين لجماعة الفنّ ما قبل الرافائيلي كان وليام هولمان هانت (1827-1910). وربّما كان هانت الشخص الأكثر إثارة للاهتمام من بين أعضائها. وقد تمسّك بمبادئ الجماعة طوال حياته.
    ويقال إن هانت كان يحتفظ بآراء جنسية مشوّهة كان يخفيها من خلال هجومه المصطنع على الابتذال الأخلاقي. وقد وقع ذات مرّة في حبّ عاهرة تدعى آني ميلر. وحاول أن "يخلّصها" مقابل الزواج ولكي يستخدمها كـ موديل في لوحاته الوعظية.
    كان بحث وليام هانت عن الطبيعة مقترنا ببحثه عن طبيعة الأخلاق والحقيقة الإلهية. والمفارقة أن ملاحظته للطبيعة أنتجت متعا حسّية صوّرها بألوان زاهية. لكن عندما ينزل عن منبر الوعظ الديني فإن لوحاته تصبح مثيرة للغاية بتفاصيلها الدقيقة وبأسلوب استخدام الألوان فيها.
    وعندما رأى الرسّام الفرنسي اوجين ديلاكروا إحدى لوحات هانت الزيتية عام 1856 ذُهل من لمعان الألوان الحمراء والصفراء والزرقاء التي نسجها هانت في صوف الخراف البيضاء. وبعض لوحاته هي مشاهد ليلية تحت ضوء القمر أو أنوار الشموع. وعندما زار هانت مصر والأراضي المقدّسة بعد عام 1854 رسم طبيعة ذات تفاصيل دقيقة مع سموات صفراء وجبال بنفسجية.

    وعلى خطى الآباء المؤسّسين لحركة الفنّ ما قبل الرافائيلي جاء عدد من الرسّامين الذين شاركوهم بعض أهدافهم وأساليبهم.
    ومن بين أهمّ هؤلاء السير ادوارد بيرن جونز (1833-1898). ومثل روزيتي، كان بيرن جونز مهتمّا بالمواضيع المتعلّقة بالعصور الوسطى والقصص الأسطورية. لكنّه فضّل في ما بعد رسم شخصيات كلاسيكية على غرار بوتيشيللي الذي رأى بعض أعماله أثناء زيارتيه إلى ايطاليا.
    ورسوماته المبكّرة تتضمّن أنماطا متفرّدة وشخوصا يشبهون شخوص روزيتي. ولوحته سيدونيا فون بورك يمكن اعتبارها مثالا على رؤيته الفريدة للمؤثّرات البصرية والتصميم القويّ. كما أن اللوحة تنطق بالتوق والفخامة اللذين اتّسمت بهما المائة عام التي فصلت بين عصر النهضة وعصر الباروك.
    وحدث بعد ذلك أن عرض بيرن جونز إحدى لوحاته شبه العارية في لندن. كانت اللوحة مستوحاة من إحدى الأساطير الإغريقية. وعندما رأى الجمهور اللوحة انتابهم الغضب واتهموا بيرن جونز روزيتي وبقيّة رموز الفنّ ما قبل الرافائيلي بالتهتّك والفجور.
    وخوفا من أن تأخذ التهمة منحى خطيرا، سافر بيرن جونز إلى ايطاليا وحقّق هناك سمعة طيّبة بفضل مهارته في تصاميم الزجاج الملون والتطريز والنسيج.
    وعندما عاد إلى بريطانيا، ظلّ يعرض رسوماته في الرويال أكاديمي حتى وفاته. وتظهر لوحاته المتأخّرة مهارة واضحة في توظيف الألوان والنقوش والأنماط. كما تركت رسوماته الشاعرية عن شخصيّات ميثيّة أثرا كبيرا في نفوس الناس التوّاقين إلى الحبّ.
    الموجة الثانية من الفنّانين ما قبل الرافائيليين ضمّت أيضا أسماء مثل ايفلين دي مورغان التي اشتهرت بلوحاتها الديكورية المستوحاة من أجواء القرون الوسطى والبيرت مور الذي كان يتبنّى أسلوبا شبه كلاسيكي.
    وبعد أن تمّ حلّ الجماعة، شكّل كلّ من روزيتي وبيرن جونز جماعة بديلة تخصّصت في رسم نساء ذوات جمال شاحب. بينما ذهب كلّ من هانت وميليه في طريق مختلف، لكنهما استمرّا يعملان وفق الأفكار الأصلية للحركة. .

    Credits
    artrenewal.org