:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، سبتمبر 27، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • العديد من الوحوش الأسطورية اليونانية ترتبط بقصص مأساوية. وبعض تلك الوحوش كانت عدوانيّتها تتسبّب أحيانا في مقتل بشر أبرياء. لكن قد تشعر بالأسف على ما انتهى اليه مصير بعضها، مثل "ميدوسا" التي خُلقت لتكون بمثابة بيدق في لعبة شطرنج إلهية. وبعض أجزاء من قصّة هذه المرأة ذُكرت في إلياذة هوميروس. لكن القصّة تظهر بشكل كامل في كتاب "التحوّلات" لأوفيد.
    ويحكي الأخير أن الإله بوسيدون رأى ميدوسا ذات يوم فانبهر بجمالها ورغب فيها وقرّر أنه، لكونه إلها، يحقّ له الحصول على جسدها، فقام باغتصابها في معبد مينيرفا. هنا تغضب مينيرفا، لا بسبب جرم الاغتصاب نفسه، وإنما لأن معبدها قد دُنّس، فتعاقب الضحية بدلاً من الجاني، وتُحوّل ميدوسا إلى وحش له شعر على هيئة أفاعٍ، وكلّ من ينظر اليها تُحوّله إلى حجر. وفي مرحلة تالية، تعطي مينيرفا درعها إلى بيرسيوس لمساعدته في قتل ميدوسا، فيقطع رأسها أثناء نومها ثم يحمله في حقيبة.
    كانت ميدوسا قبل مقتلها قد عزلت نفسها في بقعة وعرة ونائية، الأمر الذي دفع بيرسيوس لأن يبذل جهدا كبيرا للعثور عليها. وعندما يصل إلى عرينها مع بعض رفاقه، يستخدم الدرع للنظر إلى انعكاسها بدلاً من النظر إليها مباشرة حتى لا يتحوّل إلى حجر. وفي النهاية، يتمكّن من قطع رأسها بسيفه السحري ويضع الرأس في كيس، ويستخدمه لإنقاذ وإثارة إعجاب فتاة تُدعى أندروميدا ، فتنبهر من شجاعته وقوّة بأسه.
    هل كانت ميدوسا تستحقّ الموت؟! صحيح أنها عند النظر اليها كانت تحوّل البشر الى حجارة، أحيانا بلا سبب. لكن ما حدث لها في البداية كان أمرا فظيعا. فقد تعرّضت للاغتصاب، ثم حُوّلت إلى وحش بشع عقابا لها على شيء لم تفعله.
    هذا كلّ ما في الأمر، قتلَ بيرسيوس ميدوسا، لا ليخلّص المجتمع من تهديد خطير أو شرس، بل ليعقد صفقة وليثير إعجاب فتاة. ولم يكن هذان السببان نبيلين تماما، لكن هذا ما حدث.
    وهذه الأسطورة هي في نفس الوقت تحذير للبشر الذين لا يجب أن يفكّروا أنهم يمكن أن يتساووا مع الآلهة. من هي ميدوسا حتى ترفض تودّد بوسيدون لها؟! لا ينبغي للبشر أن يفعلوا هذا أبدا.
    اسم "ميدوسا" في اليونانية القديمة مشتقّ من "الحراسة والحماية". ومن اللافت أن الناس كانوا في عصور متأخّرة ينقشون صورة ميدوسا على أبواب منازلهم درءا للشرّ والتماسا للحماية. ويعتقد علماء الأنثروبولوجيا أن الجنود الرومان كانوا يحملون صورة هذه المرأة معهم في حملاتهم للحماية.
    وقد استخدم فرويد الأسطورة لشرح مفهومه عن قلق الإخصاء. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، كان تاريخ ميدوسا كضحيّة اغتصاب قد مُحي من الوعي الثقافي الجماعي الأوربّي. وأصبحت ببساطة امرأة تتمتّع بقوّة مرعبة لإخصاء الرجال. وبعض الباحثات النسويات في العصر الحديث أعدن قراءة أسطورة ميدوسا باعتبارها قطعا لرأس المجتمعات الأمومية المبكّرة على يد الثقافة اليونانية الرومانية. ووفقا لهذا التفسير، فإن انتهاك بوسيدون لميدوسا وقطع رأسها على يد بيرسيوس بعد ذلك، يمثّلان جهدا لإضفاء الشرعية على سعي الذكور لإسكات سلطة الإناث.
    والواقع أن الأساطير القديمة مليئة بقصص الآلهة الذين ينتهكون النساء. وقد انعكس هذا التقليل من قيمة المرأة في معايير وقوانين ثقافات تتاجر بالنساء كسلعة بين الرجال وتسمح بالاغتصاب بموجب القانون.
    وعندما تظهر ميدوسا في الثقافة الشعبية اليوم، يتمّ تجاهل أهميّتها العميقة الى حدّ كبير. مثلا، في فيلم مقتبس من رواية "صراع الجبابرة" عام 2010، يحشد بيرسيوس رجاله قبل مواجهة ميدوسا ويقول: أعلم أننا جميعا خائفون. لكن والدي أخبرني بقوله: ذات يوم، سيضطرّ شخص ما إلى اتخاذ موقف وقول كفى! قد يكون هذا هو اليوم. ثقوا في حواسّكم. ولا تنظروا في عيني تلك البغيّ!".
    وفي الفيلم، يعرف بيرسيوس أن ميدوسا تعرّضت للاغتصاب، ومع ذلك تُعاملها الحبكة بلا مبالاة وتنظر إليها الشخصيات نظرة عداوة وازدراء . فميدوسا في النهاية هي مجرّد مخلوق يخصي الرجال ولا بدّ من إلحاق الهزيمة به.
    لكن بمعايير العقل الحديث، بيرسيوس هو المعتدي. وهو ليس بطلا، بل قاتل يقف على جسد ضحيّته ويُمسك برأسها الملطّخ بالدماء. والأسطورة تتحدّث عن تاريخ اضطهاد المرأة عبر العصور. وكما يوضّح التاريخ اليوناني-الروماني، عندما تقلّل الآلهة من قيمة المرأة، فإن الناس يفعلون ذلك أيضا.
    في الأسطورة، بعد أن تحوّلت ميدوسا إلى ذلك الشيء البشع، غادرت إلى أرض بعيدة لتتجنّب البشر. وكانت لها قدرة على تحويل ايّ انسان الى حجر، فأصبحت وحشا أسطوريا بين الأبطال. وقد أتاها في أرضها الكثيرون لهزمها، ولم يعد أحد من عندها أبدا. لذا رأى كثيرون في مطاردتها انتحارا وبدأت محاولات قتلها تتضاءل.
    وفجأة ظهر بيرسيوس، وذهب لقتالها، وقتلَها فعلا وهي نائمة، ثم هرب.
    ومنذ ذلك الحين ولفترة طويلة، أصبحت ميدوسا الوحش الذي نعرفه اليوم، والشخصيةَ المفضّلة عند الذين يسعون إلى شيطنة السلطة الأنثوية. وكثيرا ما تتجسّد ميدوسا للرجال كلّما شعرت السلطة الذكورية بتهديد من النساء أو بتجاوزهنّ على مجالات الرجال. والردّ الوحيد على النساء اللاتي تشبه صورتهن ميدوسا هو إسكاتهن بقطع رؤوسهنّ.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • التحوّل في النموذج paradigm shift مصطلح يشير الى أيّ تغيير كبير في النظريات أو المعتقدات، تحلّ فيه أفكار جديدة محلّ الأفكار القديمة وتعمل على حلّ المشاكل الصعبة. وأوّل من استخدم هذا المصطلح هو "توماس كون" في كتابه "بُنية الثورات العلمية" المنشور عام 1962، والذي شرح فيه كيفية حدوث التغيّرات العلمية.
    ومن أهم سمات "تحوّل النموذج" الابتعاد عن المعايير القديمة أو الأطر المستقرّة، واستحداث طرق جديدة للتفكير في المشكلات أو القضايا، وأيضا تأثير التحوّل على مجالات متعدّدة، كالمجالات الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية. ومن أمثلة التحوّل النموذجي الانتقال من فيزياء نيوتن إلى نظرية النسبية لآينشتاين، والتحوّل من التكنولوجيا التناظرية إلى التكنولوجيا الرقمية في مجال الاتصالات، وما الى ذلك.
  • ❉ ❉ ❉

  • يورد البحّار الصيني المشهور "تشنغ هي" (1371-1435) في مذكّراته هذا الوصف لإحدى رحلاته: رأينا في المحيط أمواجا هائلة كالجبال ترتفع عاليا ومناطق بربرية بعيدة ومختبئة في شفافية زرقاء من أبخرة الضوء، بينما كانت أشرعتنا التي انفتحت بشموخ كالسحب تواصل مسارها السريع كالنجوم، عابرةً الأمواج العاتية كما لو كنّا نسير في طريق عام".
    قبل كريستوفر كولومبوس بوقت طويل، سافر "تشنغ هي" عبر الطرق البحرية جنوبا وغربا في المحيط الهندي وأقام علاقات مع أكثر من ثلاثين دولة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.
    عند ولادة تشنغ، كان اسمه "ما هي"، وهو النسخة الصينية من اسم "محمّد". وكانت عائلته تنتمي إلى أقليّة عرقية مسلمة في منطقة كانت لا تزال تحت سيطرة المغول من سلالة يوان. وكان والده وجدّه يحظيان باحترام كبير في مجتمعهما. وقد تلقّى "تشنغ هي" تعليما في صغره واطّلع على كتب كونفوشيوس ومنسيوس.
    وفي عام ١٣٨١، عندما كان تشنغ في الحادية عشرة من عمره، هاجم جنود من جيش مينغ مقاطعة يونان واجتاحوها، وأُسر تشنغ كغيره من الأطفال وجُلب ليخدم في بلاط مينغ.
    وبعد سنوات وأثناء خدمته في البلاط الملكي، لاحظ الإمبراطور أن "تشنغ هي" متميّز عن بقيّة أقرانه، فعيّنه مساعدا ومستشارا موثوقا له. ثم تعلّم المزيد عن الأسلحة وأصبح أكثر درايةً ببناء السفن. وفي عام 1403، أمر الامبراطور ببناء أسطول سفن الكنز المشهورة التي كان مقرّرا أن تجوب بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي. واختار الإمبراطور "تشنغ هي" لقيادة الأسطول كما عيّنه سفيرا متجوّلا للبلاط لدى عدد من الدول الأجنبية.
    وهكذا بدأت مسيرة "تشنغ هي" البحرية، وشهد بعضا من أهمّ رحلات الاستكشاف في التاريخ. كان حجم السفن التي أبحر بها مذهلا. وكتب كلّ من ماركو بولو والمستكشف المغربي ابن بطّوطة عن رؤيتهما سفنا بحرية ضخمة في زياراتهما للشرق. ويُعتقد أن ما رأياه وبحّارتهما كان جزءا من سفن أسطول الكنز التي أبحر بها "تشنغ هي"، والتي كانت أطول وأكبر بكثير من سفن كولومبوس.
    وقد وسّعت رحلات "تشنغ هي" البحرية علاقات الصين مع دول أخرى وطوّرت فرص التجارة بين الشرق والغرب. وما يزال إرثه حاضرا، من الشطآن السواحلية إلى اليمن، ومن كولكاتا إلى هونغ كونغ. وقبل فترة، أمضى مصوّر وكاتب في مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" يُدعى مايكل ياماشيتا عدّة سنوات في تأليف كتاب وإنتاج فيلم وثائقي متعدّد الأجزاء عن البحّار الصيني. ويصفه ياماشيتا في كتابه بأنه "أعظم مستكشف جغرافي لم يسمع به العالم من قبل".

  • Credits
    artic.edu
    explorersweb.com

    الخميس، سبتمبر 25، 2025

    نصوص مترجمة


    ○ ذات مرّة، وجدت نفسي أقف على منحدر في البرّية، حذائي مبلّل وعيناي مثبّتتان على حافّة من الغرانيت، حيث ظهر ثم اختفى فجأة شيء ما، لعلّه غزال أو إنسان أوشبح! إنها تلك اللحظة مرّة أخرى؛ اللحظة التي أنسى فيها ما كان من المفترض أن أفعله، لأن شيئا حقيقيا غير مخطّط له ضغط على زاوية ذهني كطفل يحمل سرّا.
    ومع الوقت، بدأت أطلق على مثل هذه اللحظات "لحظات الحافّة". والحافّة في الكتابة ليست المركز ولا الهدف ولا حبكة القصّة أو عدد الكلمات المكتوبة يوميّا. إنها الحوافّ فقط، هوامش الانتباه الهادئة، حيث تبدأ الكتابة فعليّا.
    ربّما وصلتَ مفعما بالحماس وبذلتَ جهدا كبيرا في الأسبوع الأوّل. أو ربّما تشعر بالفعل أنك متأخّر. أو ربّما تتربّص على الهامش بدفتر ملاحظات مليء بالأفكار، بينما يساوركَ شكّ عميق بأن هذه الكتابة قد لا تتحقّق أبدا. لكن إليك الحقيقة: معظم أفضل الكتابات تبدأ هناك، على الهامش، في الأماكن المهمَلة وشبه المنسيّة، على حدود البريّة وعلى أطراف أنفسنا.
    لذا، هذه دعوة للنظر جانبا، للخروج عن المسار، للكتابة من الهامش بدلاً من المركز.
    لم أكن أدرك مدى حاجتي إلى الذهاب الى الطبيعة للكتابة، حتى وصلت إلى مكان ما. ولم أفعل شيئا ذا أهمّية على الإطلاق. لم أتسلّق جبلا واحدا. لم أقطع ثلاثين ميلا سيرا على الأقدام في عاصفة ممطرة. ولم أكتب مقالا شخصيّا مناسبا. كلّ ما لاحظته هو الأشياء. لاحظت الحوافّ: حافّة الطريق حيث ازدهرت الطحالب، التحوّل الحادّ في الضوء عندما غابت الشمس خلف أشجار الصنوبر، اللحظة التي تحوّلت فيها زقزقة الطيور إلى صمت.
    الطبيعة على الحافّة ليست مجرّد ديكور. إنها حيّة، ديناميكية، بل حتى متحدّية.
    لا ينتظر الطحلب فِراشا مهندما. إنه ينمو بين الشقوق.
    ولا يتفقّد الثعلب خريطة. إنه يتتبّع رائحة على طول سياج.
    البريّة ليست هناك، إنها على حدود مجال رؤيتك.
    لذا عندما أقول "اكتب من الحافّة"، فأنا لا أطلب منك كتابة مقال عن البريّة. بل أطلب أن تلاحظ ما هو خارج نطاق تركيزك: الذكريات التي خرجت قليلا عن مسارها، المشهد الذي يطاردك ولكنه لا يتناسب مع مخطّطك، الشعور الذي تحذفه باستمرار لأنه "غير ذي صلة".
    هناك تعيش كتابتك، لا في المركز، بل على الحافّة.
    كثيرا ما نتجنّب الحوافّ لأنها غير مريحة. الكتابة من الحافّة تعني كتابة ما لم يكتمل بعد. وهذا يعني أنك قد تكتب مشهدا لا معنى له، أو تكتب حقيقة لم تدرك وجودها بعد. لقد تعلّمنا الكتابة من اليقين، من بُنية القصّة، من أقواس الشخصيات والأحداث. لكن الكتابة المغامِرة التي أدعوكم إليها تدور حول الملاحظة، لا المعرفة.
    ذات مرّة، كنت أقف على حافّة بحيرة، أشاهد طائرَي سنونو وهما يشكّلان دوّامة فوق الماء. لم أكن أكتب مذكّرات. ولم أكن أتأمّل. كنت أحاول فقط إيجاد ظِلّ وتَذكّر مكان السيّارة. ولكن فجأة تسلّلت إليّ ذكرى: لحظة مضى عليها خمسة عشر عاما، عندما وقفت بجانب بحيرة أخرى، وأنا في حال غضب وحزن. نسيت تلك النسخة من نفسي. لم أكن أخطّط للكتابة عنها. لكنها كانت هناك، تحوم على حافّة المشهد. ولم أكن أعلم أنني بحاجة لكتابة تلك اللحظة بالذات.
    وهذا تذكير لك: ما يحفّزك على الكتابة قد لا يأتي من مخطّطك أو نيّتك أو جدول أفكارك. بل قد يأتي من حافّة بحيرة، أو من مؤخّرة ذهنك، أو من هامش انتباهك. وإذا كنت ما تزال تتساءل عمّا أقصده بالكتابة على الحافّة، فإليك طريقة: إنطلق في نزهة، حتى لو كانت قصيرة. لا تنظر إلى مركز الأشياء. انظر إلى الحوافّ، إلى الحدود، حيث تتغيّر الأشياء.
    الحوافّ عادةً خفيّة. لذا اسأل نفسك ما الذي كدتُ أُغفله اليوم، ما الذي تجاهلتُه، ما الذي شعرتُ أنه تافه أو غير مهم. هل لاحظت أن الأشجار لا تموت أبدا، بل تصبح آليّات دعم للعديد من نباتات الطبيعة وحيواناتها وحياة البرّية؟ وبين ما ظننتَ أنك تكتب عنه، والذي يناديك حقّا للكتابة، يمكنك كتابة مقتطف أو محادثة لم تنهِها أو سؤالا بلا إجابة.
    لقد قضيت سنوات أحاول كتابة الشيء "الصحيح"، الشيء القابل للنشر، الشيء المتماسك والموثوق والمقبول. لكن الكتابة التي غيّرتني وتواصلت من خلالها مع الآخرين كانت دائما تأتي من الحافّة. من حزن لم أتوقّع أن أكتب عنه، من أماكن أربكتني، من الحدّ الهشّ والمتهاوي بين المعرفة والجهل. ويا له من مكان!
    فإذا كنتَ عالقاً أو تعاني ممّا يسمّى قفلة الكاتب Writer's block أو تمنّع الكتابة، فقد يكون سبب ذلك أنك تحاول الكتابة من المركز. والمركز يُشعرك بالضغط. وبدلا من ذلك جرّب الحافة. حاول كتابة الشيء الذي لستَ متأكّدا من أنه يسمح لك بكتابته.
    قبل أن أغادر المكان، وقفت على حافّة غابة صغيرة. تغيّرت الرياح وانخفضت درجة الحرارة. شعرت وكأنني على وشك الوقوع في فخّ شيء ما. كان بإمكاني المضيّ قُدما، أو التحقّق من جوّالي. لكنّي لم أفعل. وقفت هناك لدقائق. ثم كتبت جملة واحدة: اللحظة التي تدرك فيها أنك على الحافّة هي اللحظة التي تبدأ فيها قصّتك. س. كليتون

    ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

    ○ في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كانت ألمانيا قد أصبحت مجتمعا مدمّرا وتحكمه الفوضى، حيث شكّل الجوع والخراب والصدمات النفسية الحياة اليومية للناس. وكان الحلفاء قد قصفوا ودمروا معظم المدن والبلدات الألمانية. في كولونيا لم يبقَ قائما سوى 300 منزل. ومن بين 760 ألف مواطن سابقا، لم يبقَ سوى 32 ألفا، تجمّعوا معا على الضفّة اليسرى لنهر الراين. ولم تكن مدن أخرى مثل برلين وهامبورغ وغيرهما بأفضل حالا.
    كان المدنيون الذين نجوا من القصف يتجوّلون مرتدين أزياءً عسكرية مصبوغة ورثّة. وحلّت المقايضة محلّ العملة، إذ أصبح مارك الرايخ القديم عديم الفائدة. وسرعان ما أصبحت العملة الجديدة المرغوبة هي السغائر، وخاصّة الأمريكية.
    وكانت الأسواق السوداء غير قانونية، وغالبا ما كانت سريعة الحركة أو بعيدة عن الأنظار. وكان الخزف العريق لسكّان المدن يُستبدل بالزبدة، والمشروبات الكحولية بالبطاطس التي يجلبها المزارعون من الريف. وبسبب عدم استقرار الاقتصاد، ازداد اضطراب النظام الاجتماعي وتحوّلت الأمّهات إلى لصوص وأصبح الأبناء والبنات الصغار جانحين.
    ومع نهاية أبريل 1945، انقطعت أنشطة المسرح وقاعات الحفلات الموسيقية والمعارض الفنّية والمطابع ودور السينما وواجه الفنّانون والكتّاب صعوبات في إعادة البناء حتى عام 1948. ومن عام ١٩٤٥ إلى عام ١٩٤٧، كان الممثّلون والموسيقيون يعانون من الجوع باستمرار، واضطرّ العديد منهم إلى التوقّف عن الأداء بسبب سوء التغذية والضعف الشديد. وأغلقت معظم المسارح أبوابها بعد أن فقدت زوّارها وفُصل العديد من الممثّلين.
    وفي عالم الرسم أيضا، عانى مبدعو اللوحات وأصحاب المعارض الفنّية بشدّة. وأصبح الكثير من الرسّامين يبيعون أعمالهم مقابل زجاجات من النبيذ. كما شوهد العديد من الفنّانين والصحفيين وهم يسرقون البضائع أو يتسوّلون من منزل إلى منزل. وكان بعضهم يجمعون أعقاب السغائر ويلفّونها في أخرى جديدة ويستبدلونها في السوق السوداء بسلعة ما.
    وقالَ كاتب يُدعى هاينريش بول: لم أتردّد يوما في السرقة". ووصفَ معاناته في إحدى رواياته فذكرَ انه كان يعيش في كولونيا مع زوجته وطفليهما، لكنه وجدَ صعوبة في التأقلم مع الحياة الأسرية. ثم اضطرَّ للتجوّل في الشوارع والنوم في الحدائق أو الكنائس. وكان لا يدفع عند استخدام الترام ويلتقي زوجته في فنادق متداعية للقاءات حميمة. وكان الزوجان دائما على وشك الطلاق.
    وبدءاً من عام ١٩٤٥، عاد الكثير من الجنود الألمان من معسكرات الحلفاء بعد أن أطلقَ الأمريكيون سراح أكثر من مليوني رجل، وتبعهم البريطانيون. وقد عانى الجنود المحرَّرون من ضمور العضلات والعجز الجنسي، كما واجهوا في منازلهم احتقار زوجاتهم لهم بسبب خسارتهم الحرب أو لعدم دفاعهم عنهن او منع الجنود السوفيات أو الفرنسيين من اغتصابهن، أو لعدم عثورهم على عمل مناسب في عالم ما بعد الحرب. وكان العديد من هؤلاء قد فقدوا سيقانهم أو أعينهم أو أذرعهم بسبب الحرب.
    وواجه هؤلاء الرجال المنكسرون زوجات حازمات كنّ قد اضطررن إلى تدبير أمورهن بأنفسهن طوال سنوات الحرب وما بعدها، فربّين أطفالهن واعتنين بمنازلهن. وعندما عاد أزواجهن إلى الوطن، كانوا غالبا ما يشعرون بالغربة لدرجة أنهم شكّوا في إخلاص زوجاتهم، خاصّة بعد أن علم الكثيرون منهم عن اغتصاب الروس أو الآسيويين للعديد من الزوجات.
    وكانت هناك أسباب عديدة تدفع النساء الألمانيات إلى إقامة علاقات مع جنود الاحتلال، وخاصّة الجنود الأمريكيين. كانت جاذبية هؤلاء الشباب الميسورين وهالة المنتصر بمثابة فرصة رابحة لهم. وكان جنود الاحتلال يقدّمون أيضا للنساء الالمانيات سلعا، مثل جوارب النايلون والشوكولاتة والسغائر ووجبات المطاعم الفاخرة.
    كانوا يمتلكون سيّارات ويستمتعون بوقتهم في النوادي الفاخرة مع المشروبات الكحولية والموسيقى الجديدة المثيرة. وكان يعزف هذه الموسيقى غالبا موسيقيون سود، معظمهم جنود، وكانت لهم صديقات ألمانيات. كان الرجال الألمان على وجه الخصوص يستشيطون غضبا بمجرّد موافقة نساء ألمانيات على الدخول في علاقات حميمة مع جنود أمريكيين من أصل أفريقي.
    وبعد الحرب، ساد خلل ديموغرافي كبير، حيث فاق عدد النساء عدد الرجال بشكل كبير، وارتفعت معدّلات الطلاق بشكل حاد. وفي مثل هذه البيئات، عانى الأطفال، لا سيّما عندما أهمل الآباء واجباتهم الأسرية، ما مهّد الطريق فيما بعد لصراع طويل بين الأجيال. م. كيتر

    Credits
    archive.org

    الثلاثاء، سبتمبر 23، 2025

    نصوص مترجمة


    ○ عندما انتهيت من قراءة رواية "الدون الهادئ" للكاتب الروسي ميخائيل شولوكوف، قرّرت التوقّف نهائيا عن محاولات كتابة رواية. فقد تصوّرت أنني لن أتمكّن أبداً من بلوغ مستوى شولوكوف، ولن أصل مطلقا الى مستوى ذكائه في صياغة الجمل أو رسم الشخصيات. ولعدّة أيام، لم أستطع الكتابة.
    كنت في العشرينات من عمري، وعندما تمكّنت أخيراً من التغلّب على نفسي ومقارنتي القاسية بروائي عبقريّ، عاودت الكتابة مرّة أخرى بهدف أن أكون أفضل كاتب أستطيع أن أكونه، وبالموهبة التي مُنحت لي. وشعرت أن هذا أقلّ ما يمكنني فعله من أجل مهنة جدّي ووالدي، ثم مهنتي لاحقاً.
    تخيّل للحظة أنك تتجوّل في الصحراء، وفجأة تفقد طريقك. ثم تجد بوصلة مغناطيسية ملقاة على الرمال. إذا كنت تعرف ما هي البوصلة وكيفية استخدامها، فقد تتمكّن من مساعدة نفسك في العثور على طريقك مرّة أخرى. إما إن كنت لا تعرف ما البوصلة، فقد تستنتج أنها لعبة، شيء ما يمكنك تقليبه بيدك وتسلية نفسك به. وإذا أحسست بأن عطشك يزداد، فقد تنظر اليها قليلا ثم تقول لنفسك: يوجد القليل من السائل هناك، إذا فتحت العلبة يمكنني شربه وربّما لن أشعر بالعطش".
    إن ما قد يبدو في البداية وكأنه لعبة مسلّية (البوصلة) قد يتحوّل إلى أداة مهمّة وحيوية في يد شخص يتمتّع بالنوع المناسب من الخبرة والمعلومات. والحكايات والقصص يمكن أن تعمل بنفس الطريقة. أندرو بودن

    ❉ ❉ ❉

    ○ أحيانا كنت أتبع الطرق المحاطة بأزهار عبّاد الشمس. قيل لي إن المورمون هم من أدخلوا زهور عبّاد الشمس إلى هذه البلاد، وأنه في وقت الاضطهاد، عندما غادروا ميسوري وتوجّهوا إلى البرّية بحثا عن مكان يمكنهم فيه عبادة الله على طريقتهم، كان أعضاء أوّل مجموعة من المستكشفين يعبرون السهول إلى يوتا، ينثرون بذور عبّاد الشمس في طريقهم. وفي الصيف التالي، عندما مرّت قوافل العربات الطويلة ومعهم النساء والأطفال، كان أمامهم درب عبّاد الشمس ليتبعوه.
    وقد علِقت تلك الأسطورة بذهني، ويبدو لي دائما أن الطرق المحاطة بأزهار عبّاد الشمس هي طرق الحرّية. في الشتاء، لم يكن المرء يشبع من الهواء العليل. كنت أستيقظ كلّ صباح مملوءةً نشاطا وحيوية. لم تكن هناك أيّ من علامات الربيع التي كنت أترقّبها في فرجينيا، لا غابات نابتة ولا حدائق مزهرة.
    لم يكن هناك سوى الربيع نفسه، نبضه وهدوؤه الخفيف وجوهره الحيوي في كلّ مكان: في السماء وفي السحب السريعة وفي ضوء الشمس الباهت وفي الرياح الدافئة العاتية. يرتفع الربيع فجأة ويغرق فجأة مندفعا ومرِحا كجرو كبير يداعبك بمخالبه ثم يستلقي لتداعبه. لو قُذف بك وأنت معصوب العينين في تلك البراري الحمراء، لعرفتَ أنه الربيع. أنتونيا كاثر

    ❉ ❉ ❉

    ○ يتسلّق نيتشه جبالا شاهقة، لكنه يظهر في النهاية في التيبت. يجلس بجانب تولستوي في أرض العدم والنيرفانا. كلاهما عاجز. أحدهما لأنه لا يجب أن يتمسّك بأيّ شيء، والآخر لأنه لا يجب أن يتخلّى عن أيّ شيء. إرادة تولستوي مجمّدة بغريزة بوذية ترى أن جميع الأفعال الخاصّة شرّيرة.
    لكن إرادة نيتشه مجمّدة بنفس القدر إذ يرى أن جميع الأفعال الخاصّة خير؛ لأنه إذا كانت جميع الأفعال الخاصّة خيرا، فلا شيء منها خاص. يقفان عند مفترق طرق، أحدهما يكره جميع الطرق والآخر يحبّها. والنتيجة أن بعض الأشياء ليس من الصعب حسابها. يمكن تعريف الجنون بأنه استخدام النشاط العقلي للوصول إلى العجز العقلي. ا. فوستر

    ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

    ○ معظمنا يَقبل الحدود على الخرائط دون وعي. ولكن إذا طلبت من هندي وباكستاني رسم حدود كشمير على خريطة فارغة لشبه القارة الهندية، فستحصل بالتأكيد على خريطتين مختلفتين تماما. ولو طلبت من مائة شخص رسم خريطة فارغة للغرب الأوسط الأمريكي، فستحصل على مائة خريطة مختلفة.
    ويجهل معظمنا تماما الدوافع السياسية وراء المسوحات الطبوغرافية التي تجريها هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، والتي وإن كانت مفيدة لتسلّق الجبال أو تحديد ارتفاع باب منزلك، إلا أنها تُغفل "تفاصيل تافهة" مثل مكبّات النفايات النووية.
    الخرائط، كأي نصّ أو إنتاج ثقافي، تحمل دوافع سياسية وتقاليد عامّة ودلالات رمزية. ومعظم خرائط العصور الوسطى لم تكن مخصّصة لنقل الأشخاص من مكان إلى آخر. ولم تكن أشياء تُحمل في جيب سترة المسافر المنهك. بل على العكس تماما، كانت معظم تلك الخرائط إما أعمالا فنّية معلّقة على جدران الكاتدرائيات بهدف إظهار عظمة الخلق، أو رسوما توضيحية في المخطوطات تصف خصائص الخلق. ومثل معظم آثار العصور الوسطى، تُعتبر الخرائط نادرة. م. ليفينغستون

    ❉ ❉ ❉

    ○ تذكّر عظمتك. قبل أن تولد، وكنت لا تزال صغيرا جدّا ولا تُرى بالعين المجرّدة، فزتَ بسباق الحياة من بين 250 مليون متنافس. ومع ذلك، ما أسرع ما نسيت قوّتك، عندما يكون وجودك دليلا على عظمتك. لقد ولدتَ فائزا، محاربا تحدّى الصعاب بالنجاة من أشرس معركة على الإطلاق. والآن وقد أصبحت عملاقا، لماذا تشكّ في النصر ضدّ أعداد أقلّ وهوامش أوسع؟ الجدران الوحيدة الموجودة هي تلك التي وضعتها في عقلك. وأيّ عقبات تتخيّلها، موجودة فقط لأنك نسيت ما حقّقته بالفعل. سوزي قاسم

    ❉ ❉ ❉

    ○ في قصر الخليفة الشهير في سامرّاء، الذي أسّسه المعتصم عام ٨٣٥ م، يذكر ياقوت الحموي أنه كانت هناك عدّة لوحات جدارية رائعة جدّا، من بينها لوحة "فائقة الجمال" تصوّر كنيسة مسيحية مع كهنة. ويتحدّث المؤلّفون العرب عن الطاووس الشهير المصنوع من الذهب وله عيون من الياقوت، وعن الشجرة المطليّة بالذهب مع طيورها، والتي كانت قائمة في القاعة التي كان يستقبل فيها هارون الرشيد السفراء. ومن المعروف من "ألف ليلة وليلة" أن الرشيد كان له في حديقته ببغداد قاعة كبيرة تُسمّى "قاعة الصور" بسبب زخرفتها بصور على الطراز الفارسي.
    وفي عهد الفاطميين، بدأت نهضة حقيقية للفنّ المصري القديم. وعندما يقرأ المرء وصف المقريزي لخزانة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (1035-1094 م)، يدرك أنها كانت على درجة من الروعة تفوق بكثير أيّ شيء وُصف في "ألف ليلة". كان فنّ العصر الفاطمي رائعا حقّا، والقطع الفنيّة القليلة التي نجت، فيها إتقان في التنفيذ والذوق، ما يجعلها من بين أروع النماذج التي أنتجها الشرق.
    وفي السنوات الأخيرة، عُثر على العديد من شظايا الفخّار المتقنة للغاية في تلال الفسطاط وفي صعيد مصر. والأشكال والحيوانات الظاهرة على هذه القطع رُسمت بيد واثقة بشكل مذهل. ويذكر المقريزي أيضا عددا من الفنّانين الذين كان يُطلق عليهم لقب "أستاذ". ويشير الى أنه في عهد الخليفة المستنصر بالله، استّدعي فنّان يُدعى ابن عزيز من العراق إلى مصر من قِبل أحد وزراء الخليفة. ف. مارتن

    الأحد، سبتمبر 21، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • لا يُحتفى بإدفارد مونك كفنّان نرويجي بارز فحسب، بل يُعدّ أيضا شخصية فريدة تركت بصمة مهمّة في الثقافة العالمية. وما يجعله فنّانا مميّزا ومثيرا للجدل هو أن لوحاته ورسوماته ومطبوعاته تتناول مواضيع شغلت البشرية منذ القدم. ماذا يعني أن نولد، وماذا يعني أن نموت، وما هو الحب؟ ما المعنى الجوهري لهذه المفاهيم التي تشكّل تفكيرنا الجمعي كبشر والتي ورثناها من خلال الأساطير والرمزية الثقافية والتاريخ؟
    لوحة مونك هذه اسمها "العاصفة"، ويقال انه استلهم موضوعها من عاصفة عنيفة ضربت بلدة اوسغورستراند الساحلية النرويجية، حيث كان مونك يقضي صيفه غالبا.
    ويظهر فيها مجموعة من النساء اللاتي يرتدين ملابس داكنة وهنّ يغادرن مكان حفل زفاف في المنزل المضاء في الخلفية. وعبر ممرّ صخري، يأخذن طريقهنّ نحو البحر القريب.
    انحناء الشجرة الكبيرة وتغطية النساء لآذانهنّ بأيديهنّ لحجب صفير الرياح وعويل البحر يوحي بقوّة الرياح. والأشكال الضبابية والخطوط الناعمة تُضفي على المشهد غموضا بينما تبدو النساء كالأشباح. النمط المتداخل من الألوان والخطوط العريضة يعطي إحساسا، ليس فقط باضطراب الطبيعة، بل أيضا بالصراع الداخلي. كما أن نوعية التوليف تعكس الى حدّ ما انشغال مونك بمفهوم الفرد المنعزل عن مجتمع الآخرين.
    كان مونك يكشف في صوره عن هواجس وجودية مختلفة، كالحبّ والرغبة والغيرة والقلق والموت، أو عن حالات انفعالية مثل الكآبة والعاطفة والخضوع. وفي بعض اعماله، تُعتبر المباني نصف المضاءة مصدرا للخوف او الخطر، وربّما يكون هذا هو المعنى المقصود هنا.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • من أصعب الأشياء تحويل كتاب مثل "خطّ الدم" لكورماك مكارثي إلى فيلم سينمائي . لكن المخرج ريدلي سكوت حاول ذلك بأقصى ما يستطيع، رغم طول الرواية وما فيها من كمّية الوحشية والعنف. والعنصر الأهم في الكتاب الذي يصعب تصويره على الشاشة هو سحابة اليأس والعبث الكثيفة التي تتخلّله.
    و"خطّ الدم" تستند إلى أحداث موثّقة وحقيقية، وتروي قصّة عصابة من المرتزقة الأمريكيين يخوضون رحلتهم القاتلة والمتهوّرة على طول الحدود بين تكساس والمكسيك، حيث يسلخون جلود الهنود ويبيعون رؤوسهم مقابل الذهب. والهدف المعلن هو جعل المنطقة آمنة للمكسيكيين والأمريكيين. لكن الوسائل تفسد الغايات.
    ولا يقتصر الأمر على فروة الرأس الملطّخة بالدماء وجثث الأطفال الرضّع المتدلّية من الأشجار والجماجم المحروقة بأشعّة الشمس الحارقة على الحدود وغيرها من مشاهد الرواية/الفيلم الرهيبة، بل الشعور الذي ينتاب المرء بأن هذا هو الواقع فعلا وألا راحة ولا خير في هذا العالم.
    لذلك قد لا يكون "خطّ الدم" كتاباً لضعاف القلوب. فقسوته لا هوادة فيها. وأسلوب مكارثي النثريّ قويّ وواضح، وعالمه مجرّد من أيّ تظاهر بالأخلاق. فالحياة بين الولايات المتحدة والمكسيك في منتصف القرن التاسع عشر لم تكن تطاق، والوحشية والموت وانعدام الثقة منتشرة في كلّ مكان، والألم والمعاناة لا نهاية لهما.
    ورغم تكليف عصابة غلانتون بمهمّة قتل شعب الأباتشي، إلا أن أفراد العصابة لا يتردّدون في قتل أيّ شخص يصادفونه في طريقهم. وما يتكشّف ليس قصّة بقدر ما هي مسيرة في الظلام، وتصوير للبشرية في حالة طبيعة "هوبزية" .
    وفي قلب الكتاب نجد القاضي الغامض هولدن الذي يتمتّع بما يشبه الهالة الأسطورية. فهو ضخم وأصلع وماهر للغاية في كلّ شيء ويلقي خطبا سريعة عن العلم والفلسفة. وعندما قابلته عصابة غلانتون لأوّل مرّة، كان، مثل الشيطان في كتاب "الفردوس المفقود"، يصنع البارود.
    وهذا القاضي في الرواية والفيلم يجسّد قوّة كاسرة، إذ يدفع العصابة لارتكاب فظائع متزايدة الوحشية. وهو يبرّر ذلك بخطابات مطوّلة ومتشعّبة يجادل فيها بأن الحرب ليست عيبا بشريا، بل هي أساس الوجود. "الحرب إله" و"الحرب أصدق أشكال العِرافة".
    ثم يخبرنا هذا القاضي، وهو جالس أمام نار مشتعلة وملطّخ بشحم حيوان ونخاعه، بقوله: قبل أن يوجد الإنسان، كانت الحرب تنتظره. المهنة النهائية تنتظر ممارسها النهائي. هكذا كانت وسوف تكون. هكذا لا غير". والمشهد الذي يلي كلامه يمكن مقارنته بالجحيم: عبروا جبال مالباي على ظهور خيولهم، مارّين بقاع بحيرة من الحمم البركانية، متشقّقة وسوداء مثل قِدر من الدم الجاف، ينسجون في تلك الأراضي القاحلة خيوطا من زجاج الكهرمان الداكن كبقايا فيلق خافت يشقّ طريقه من أرض ملعونة أشبه ما تكون بأرض الجحيم المحترقة."
    العنف هو جوهر السرد. والقصّة تكشف عن الرغبة البشرية في التدمير وعن رقّة القناع الحضاريّ الذي تكمن وراءه وحشيتنا الطبيعية وشغفنا بالعنف كبشر. يقول "هاري ريدهيد": إن الغياب التام للإنسانية واللاأخلاقية المفرطة في الكتاب عاملان يضفيان شعورا بأن ما يُعرض علينا هو هاوية سحيقة تدور حولها الشخصيات. وبالنسبة لمكارثي، التاريخ مكتوب بالحبر الأحمر، والموت والعنف ليسا انحرافين، بل هما متداخلان في نسيج وجودنا. كما أن الغرب لم يروَّض، بل أُغرق في الدماء".
    ومن أكثر الأشياء التي تجذب الانتباه في الرواية هو الإيحاء بعالم آخر موازٍ لعالمنا، عالمٍ من الاستعارات والأفكار مليء بالظلال وبتخيّلات لما نخشاه في أنفسنا. كما أنها تزخر بالعبارات الموحية والتي يصعب نسيانها مثل: خلف الجبل، توهّجَ خيط رفيع من البرق لفترة وجيزة" و"في الصحراء تسقط النجوم طوال الليل في أقواس مريرة" و"الذئاب تهرول بخطوات أنيقة بجانب الفرسان، وذقون السحالي مسندة الى الصخور الباردة، تدافع عن العالم بابتسامات رقيقة وعيون مثل حجارة مسنونة".
    الكاتب "ديفيد فان" يرى أنه لا يمكن لأيّ رواية أمريكية عظيمة إلا أن تكون معادية لأمريكا. ورواية "خط الدم"، مثل رواية "الحبيبة" لتوني موريسون، تركّز على أعظم عار لنا، ألا وهو إبادة شعب بريء والشغف بالحرب".
    أما المؤرّخ والكاتب ويليام دالريمبل فيُثني على قدرات مكارثي الوصفية التي "تجعله أفضل كاتب نثر في عصرنا". كما يرى أن "خطّ الدم" هي الرواية الأمريكية العظيمة حقّا. ويضيف: إنها رواية مكتوبة ببراعة، ومظلمة وكئيبة، لكنها لا تشبه أيّ رواية غربية عرفتها. ويضيف: في كتابي الأخير " عودة ملك"، اضطررت لكتابة مشاهد موغلة في عنفها، ولجأت إلى "خط الدم" لأجد طريقة لذلك. إن تعلّم عدم المبالغة في العنف فنّ رائع، ومكارثي بارع فيه. فهو يقلّل من حدّته، مستخدما أوصافا واقعية تخلو من المشاعر وتُفاقم من هوله".
    من جهته، يصف "هارولد بلوم" رواية ماكارثي بأنها أحد أهمّ الإنجازات الجمالية في هذا العصر، وطريقة كتابتها عمل محفوف بالمخاطر".
    كورماك مكارثي كاتب موهوب، وهو بلا شك من أعظم ممثّلي النثر الأمريكي، على الرغم من نفور بعض القرّاء من كتاباته بسبب إيغالها في العنف الملطّخ بالدماء. ومثل معظم الكتّاب المتشائمين، لا يبتعد مكارثي كثيرا عن نظرية الثيوديسيا theodicy أو العدالة الإلهية، وهي مسألة فلسفية ولاهوتية تسعى لتقديم تبرير معقول أو سبب منطقي لوجود الشرّ في هذا العالم.
  • ❉ ❉ ❉

  • اقتباسات ...
    ○ في طفولتي، كنت أبحث عن الظلال. أتذكّر متعتي العظيمة وأنا أختبئ تحت الستائر، في زوايا المنزل المظلمة. وفي الخارج، في الريف، كنت أقضي ساعات، بل أيّاما كاملة، مستلقيا على الأرض، أشاهد الغيوم تمرّ، وأتابع بلذّة لا حدود لها روعةَ تغيّراتها العابرة. كنت أعيش في داخلي فقط وأنفر من أيّ جهد جسدي. أوديلون ريدون

    ○ الفلسفة هي الموقف الذي يدفعك للتساؤل حتى عمّا هو بديهي. لماذا توجد بقع على سطح القمر؟ ما الذي يسبّب المدّ والجزر؟ ما الفرق بين الكائن الحيّ والجماد؟
    ماذا يتطلّب الأمر لكي تكون فيلسوفا؟
    في الوقت الحاضر، يتواجد معظم الفلاسفة في الأوساط الأكاديمية. ولكن ليس بالضرورة أن يكون المرء أستاذا جامعيا ليكون فيلسوفا. فقد مارس العديد من الشخصيات البارزة في تاريخ الفلسفة مهنة أخرى لكسب عيشهم. سبينوزا مثلا كان طبيب عيون، وعمل لايبنتز دبلوماسيّا، وعمل هيوم مدرّسا ومؤرّخا. لذا، سواء كنتَ تتمتّع برؤية عالمية منهجية أو موقف سليم، فقد تطمح لأن يقال عنك "فيلسوف". ولكن ينبغي الحذر! قد لا تتمتّع هذه التسمية دائما بسمعة طيّبة! ا. برغيني

    ○ الخطيئة الأصلية عند القوميين المسيحيين في أمريكا ليست الإبادة الجماعية أو القتل أو الاغتصاب، بل أكل فاكهة بعد أن مُنعت "آدم وحوّاء"! وهم يريدون العودة إلى "أمّة مسيحية" و"جعل أمريكا عظيمة ثانيةً". لكن الدين لم يصنع الولايات المتحدة، ناهيك عن جعلها عظيمة. أندرو سيدل

    ○ أنظرُ إلى الكتب على رفوف مكتبتي. تبدو خاملة. لكن ماذا لو كانت الشخصيات تعيد ترتيب نفسها بهدوء؟ ماذا لو لم تتعلّم إيما وودهاوس من أخطائها؟ ماذا لو انغمس توم جونز في حياة بائسة من الصيد الجائر والخروج على القانون؟ ماذا لو قاومت حوّاء الشيطان متذكّرة أمر الله ونصيحة آدم الحنونة؟ أتخيّل جميع الشخصيات وهي تسرع للعودة إلى أماكنها، تشعر بوجودي وأنا أُنزل الكتاب من الرفّ. وتقول: أسرعوا، إنه يتوقّع أن يجدنا حيث تركنا، ومهما تغيّرت حياته في هذه الأثناء." ف. كلينكنبورغ

  • Credits
    edvardmunch.org
    cormacmccarthysociety.com