○ لكي تعيش وحيدا، يجب أن تكون إما وحشاً أو إلهاً!
أرسطو
في حين تبدو العزلة شأنا شخصيا للغاية، إلا أنها ترتبط بتجربتنا الجماعية كبشر. فعندما نمارس الانفراد بأنفسنا، فإننا نشارك في تقليد يمتدّ عبر الثقافات والقرون. ونحن نتفاعل مع أسئلة لطالما حرّكت الحياة البشرية منذ بداياتها: من أنا حين لا يراقبني أحد؟ وما الذي يهمّ أبعد من الإنجاز والقبول؟ وماذا يعني أن تكون إنسانا كاملا؟
في ثقافة تكافئ العمل، يُعدّ السكون فعل تمرّد. وفي عالم مدمن على الضوضاء، يعدّ اختيار العزلة خيارا جذريّا. وفي مجتمع يطالبنا بإصلاح أنفسنا وتطويرها وتحسينها، فإن أشجع ما يمكننا فعله هو التوقّف والتنفس والشعور.
العزلة لا تَحلّ جميع مشاكلنا، لكنها تكشف أيّها حقيقي. تُظهر لنا من أصبحنا ومن يمكننا أن نكون. لأن الشخص الذي كنتَ تتجنّبه، والذي يظهر في الصمت، قد يكون الشخص الذي كنت تبحث عنه طوال الوقت.
والعديد من الشخصيات البارزة في التاريخ ارتقوا إلى مكانتهم الأسطورية مستغلّين منافع فترات العزلة الطويلة. فالأربعون يوما وليلة التي قضاها المسيح في صراعه مع الشيطان في الصحراء دفعته إلى ذروة روحانيّته. ووجد لاو تزو وبوذا وموسى في العزلة الرؤى الأخلاقية العظيمة التي حدّدت حياتهم. وسعى ماركوس أوريليوس وفريدريك نيتشه ورالف إيمرسون وألبير كامو وهنري ديفيد ثورو وغيرهم الكثير من الفلاسفة، إلى ملاذ في العزلة لصقل شخصياتهم وتطوير رؤاهم الفلسفية، بعيدا عن التأثير المُفسد للمجتمع.
كتب نيتشه يقول: عندما أكون بين أناس كثيرين، أعيش كما يعيشون ولا أفكّر كما أفكّر حقّا. وبعد فترة، أشعر كما لو أنهم يريدون نفيي عن نفسي وسلب روحي. ولا أستعيد طبيعتي الخيّرة إلا بعد أن أذهب الى البرّية".
الاستمتاع بالعزلة نوع من الفرح الصافي والهادئ، لا علاقة له بالأمور الماديّة أو المصالح. وينبغي أن تكون نوعا من الممارسة الروحية. وهي لا تتطلّب طموحات جامحة، بل قلبا منفتحا. ولا تتطلّب زهدا، بل هدوءا وضبطا للنفس. ولا تتطلّب اعتزالا في الجبال، بل لامبالاة بالشهرة والثروة.
الرحّالة ريتشارد بيرد أمضى شتاءً وحيدا في أنتاركتيكا، حيث قاسى بردا قارسا وليالي طويلة مظلمة، وعلى حدّ تعبيره "عزلة لم تستطع أيّ قوّة على الأرض رفعها لستّة أشهر على الأقل". ولكن بدلا من أن يكون وحيدا، كانت هذه الفترة الشديدة من العزلة هي الأكثر تحوّلا في حياته. كتب في كتابه "وحيداً" يقول: نعم، العزلة أعظم مما توقّعت. إحساسي بالقيم يتغيّر، والعديد من الأشياء التي كانت في ذهني سابقا تبدو الآن وكأنها تتبلور".
ولاحظ آرثر شوبنهاور أنه لا يمكن للإنسان أن يكون على سجيّته إلا ما دام منعزلا. ومن لم يحبّ العزلة، فلن يحبّ الحرّية، لأنه لا يكون حرّا حقّا إلا عندما يكون وحيدا. القيود حاضرة دائما في المجتمع، كرفيق لا خلاص منه. وكلّما كان الإنسان عظيما، صَعُب عليه تحمّل التضحيات التي يتطلّبها أيّ تواصل مع الآخرين".
ويقول جان بول سارتر: تخيّلوا أنفسنا وحدنا في حديقة. نستمتع بتجربتنا مع الأشجار والشمس والطيور، فهي موجودة لنا وحدنا. ولكن بعد ذلك يجلس شخص آخر على المقعد المقابل لنا. ندرك أننا أصبحنا الآن شيئا في وعي شخص آخر، وهذا يجلب لنا خيبة الأمل ويقلّل من حرّيتنا ويعطّل تواصلنا المثالي مع البيئة". وهذا ما قصده سارتر بعبارة "الجحيم هو الآخرون". أو كما كتب: بمجرّد ظهور الآخر أصبحُ في موقف إصدار أحكام على نفسي كموضوع، لأنني أبدو للآخر كموضوع".
في العزلة، نكون أحرارا في الاستمتاع بما يحيط بنا دون وعي مزعج بأننا مجرّد كائنات في مجال إدراك شخص آخر. نحن أحرار في فعل ما نريد وقتما نريد. يمكننا أن نفكّر أو نشعر بأيّ شيء ونتبع شغفنا دون اكتراث بما سيفكّر به الآخرون عنا أو بما إذا كنا نلبّي توقّعاتهم أو مطالبهم.
الفيلسوف الإنغليزي وليام هازليت اعتاد القيام بنزهات طويلة بمفرده، لمجرّد الاستمتاع بحرّية العزلة، وكتب يقول: إن روح الرحلة المنفردة هي الحرّية، الحرّية الكاملة للتفكير والشعور والفعل، كما يشاء المرء. تحبّ أن يكون كلّ شيء على طريقتك؟ هذا مستحيل إلا إذا كنت وحدك".
حرّية العزلة قِيمة بحدّ ذاتها، ولكنها أيضا وسيلة لاكتشاف الذات والنموّ الشخصي. فعندما نكون وحدنا، وفي غياب القيود الاجتماعية التي تقيّد تجربتنا، يمكننا الانخراط فيما أسماه فيليب كوخ التناغم مع الذات الذي يعرّفه بأنه "التدفّق الحر، أي تدفّق الأفكار والرغبات والعواطف إلى الوعي دون أيّ رقابة أو تحكّم".
ويضيف: إن انفتاحنا على كامل نطاق عواطفنا وأفكارنا ورغباتنا وصورنا الداخلية يضعنا على تماسّ مع جوانب ذواتنا التي ندفنها تحت الأقنعة الاجتماعية التي نرتديها عندما نكون مع الآخرين. لكن في العزلة، نكون أحرارا في خلع هذه الأقنعة، إذ لا يوجد من يستمع إلينا أو يستجيب لنا سوى صوت ضمائرنا".
أرسطو
في حين تبدو العزلة شأنا شخصيا للغاية، إلا أنها ترتبط بتجربتنا الجماعية كبشر. فعندما نمارس الانفراد بأنفسنا، فإننا نشارك في تقليد يمتدّ عبر الثقافات والقرون. ونحن نتفاعل مع أسئلة لطالما حرّكت الحياة البشرية منذ بداياتها: من أنا حين لا يراقبني أحد؟ وما الذي يهمّ أبعد من الإنجاز والقبول؟ وماذا يعني أن تكون إنسانا كاملا؟
في ثقافة تكافئ العمل، يُعدّ السكون فعل تمرّد. وفي عالم مدمن على الضوضاء، يعدّ اختيار العزلة خيارا جذريّا. وفي مجتمع يطالبنا بإصلاح أنفسنا وتطويرها وتحسينها، فإن أشجع ما يمكننا فعله هو التوقّف والتنفس والشعور.
العزلة لا تَحلّ جميع مشاكلنا، لكنها تكشف أيّها حقيقي. تُظهر لنا من أصبحنا ومن يمكننا أن نكون. لأن الشخص الذي كنتَ تتجنّبه، والذي يظهر في الصمت، قد يكون الشخص الذي كنت تبحث عنه طوال الوقت.
والعديد من الشخصيات البارزة في التاريخ ارتقوا إلى مكانتهم الأسطورية مستغلّين منافع فترات العزلة الطويلة. فالأربعون يوما وليلة التي قضاها المسيح في صراعه مع الشيطان في الصحراء دفعته إلى ذروة روحانيّته. ووجد لاو تزو وبوذا وموسى في العزلة الرؤى الأخلاقية العظيمة التي حدّدت حياتهم. وسعى ماركوس أوريليوس وفريدريك نيتشه ورالف إيمرسون وألبير كامو وهنري ديفيد ثورو وغيرهم الكثير من الفلاسفة، إلى ملاذ في العزلة لصقل شخصياتهم وتطوير رؤاهم الفلسفية، بعيدا عن التأثير المُفسد للمجتمع.
كتب نيتشه يقول: عندما أكون بين أناس كثيرين، أعيش كما يعيشون ولا أفكّر كما أفكّر حقّا. وبعد فترة، أشعر كما لو أنهم يريدون نفيي عن نفسي وسلب روحي. ولا أستعيد طبيعتي الخيّرة إلا بعد أن أذهب الى البرّية".
الاستمتاع بالعزلة نوع من الفرح الصافي والهادئ، لا علاقة له بالأمور الماديّة أو المصالح. وينبغي أن تكون نوعا من الممارسة الروحية. وهي لا تتطلّب طموحات جامحة، بل قلبا منفتحا. ولا تتطلّب زهدا، بل هدوءا وضبطا للنفس. ولا تتطلّب اعتزالا في الجبال، بل لامبالاة بالشهرة والثروة.
الرحّالة ريتشارد بيرد أمضى شتاءً وحيدا في أنتاركتيكا، حيث قاسى بردا قارسا وليالي طويلة مظلمة، وعلى حدّ تعبيره "عزلة لم تستطع أيّ قوّة على الأرض رفعها لستّة أشهر على الأقل". ولكن بدلا من أن يكون وحيدا، كانت هذه الفترة الشديدة من العزلة هي الأكثر تحوّلا في حياته. كتب في كتابه "وحيداً" يقول: نعم، العزلة أعظم مما توقّعت. إحساسي بالقيم يتغيّر، والعديد من الأشياء التي كانت في ذهني سابقا تبدو الآن وكأنها تتبلور".
ولاحظ آرثر شوبنهاور أنه لا يمكن للإنسان أن يكون على سجيّته إلا ما دام منعزلا. ومن لم يحبّ العزلة، فلن يحبّ الحرّية، لأنه لا يكون حرّا حقّا إلا عندما يكون وحيدا. القيود حاضرة دائما في المجتمع، كرفيق لا خلاص منه. وكلّما كان الإنسان عظيما، صَعُب عليه تحمّل التضحيات التي يتطلّبها أيّ تواصل مع الآخرين".
ويقول جان بول سارتر: تخيّلوا أنفسنا وحدنا في حديقة. نستمتع بتجربتنا مع الأشجار والشمس والطيور، فهي موجودة لنا وحدنا. ولكن بعد ذلك يجلس شخص آخر على المقعد المقابل لنا. ندرك أننا أصبحنا الآن شيئا في وعي شخص آخر، وهذا يجلب لنا خيبة الأمل ويقلّل من حرّيتنا ويعطّل تواصلنا المثالي مع البيئة". وهذا ما قصده سارتر بعبارة "الجحيم هو الآخرون". أو كما كتب: بمجرّد ظهور الآخر أصبحُ في موقف إصدار أحكام على نفسي كموضوع، لأنني أبدو للآخر كموضوع".
في العزلة، نكون أحرارا في الاستمتاع بما يحيط بنا دون وعي مزعج بأننا مجرّد كائنات في مجال إدراك شخص آخر. نحن أحرار في فعل ما نريد وقتما نريد. يمكننا أن نفكّر أو نشعر بأيّ شيء ونتبع شغفنا دون اكتراث بما سيفكّر به الآخرون عنا أو بما إذا كنا نلبّي توقّعاتهم أو مطالبهم.
الفيلسوف الإنغليزي وليام هازليت اعتاد القيام بنزهات طويلة بمفرده، لمجرّد الاستمتاع بحرّية العزلة، وكتب يقول: إن روح الرحلة المنفردة هي الحرّية، الحرّية الكاملة للتفكير والشعور والفعل، كما يشاء المرء. تحبّ أن يكون كلّ شيء على طريقتك؟ هذا مستحيل إلا إذا كنت وحدك".
حرّية العزلة قِيمة بحدّ ذاتها، ولكنها أيضا وسيلة لاكتشاف الذات والنموّ الشخصي. فعندما نكون وحدنا، وفي غياب القيود الاجتماعية التي تقيّد تجربتنا، يمكننا الانخراط فيما أسماه فيليب كوخ التناغم مع الذات الذي يعرّفه بأنه "التدفّق الحر، أي تدفّق الأفكار والرغبات والعواطف إلى الوعي دون أيّ رقابة أو تحكّم".
ويضيف: إن انفتاحنا على كامل نطاق عواطفنا وأفكارنا ورغباتنا وصورنا الداخلية يضعنا على تماسّ مع جوانب ذواتنا التي ندفنها تحت الأقنعة الاجتماعية التي نرتديها عندما نكون مع الآخرين. لكن في العزلة، نكون أحرارا في خلع هذه الأقنعة، إذ لا يوجد من يستمع إلينا أو يستجيب لنا سوى صوت ضمائرنا".
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
الاستمتاع بالعزلة سلوك أصيل، كطريقة بعض الناس في التعامل مع تعقيدات العالم، لا عجلة ولا بطء، يستمتعون بجمال زهرة متفتّحة وينتظرون صفاء المطر المتساقط، لا تعميهم الشهرة ولا يخدعهم النفاق. إنهم متواضعون، لطفاء وغير متنافسين. ومع ذلك يتمتّعون بشعور من الكبرياء والجرأة.
ويقول توماس ميرتون: ليس كلّ البشر مدعوّين للانطواء، لكن كلّ البشر يحتاجون إلى ما يكفي من الصمت والعزلة في حياتهم ليتمكّنوا من سماع صوتهم الداخلي العميق، ولو من حين لآخر. وعندما لا يُسمع هذا الصوت الداخلي تصبح الحياة بائسة ومرهقة".
ومع ذلك، فإن الأصوات التي نسمعها في العزلة ليست دائما ممتعة. أحيانا يتضمّن التناغم مع الذات استعادة صدمات الماضي وظهور مشاعر مؤلمة ومخاوف وقلق كنّا نتجنّبها بانغماسنا في ملهيات المجتمع.
وفي حين أن الصراعات والمشاعر التي تظهر في العزلة قد تسبّب المعاناة، فإن ظهورها يمنحنا فرصة لمواجهتها بوعي. وإذا اغتنمنا هذه الفرصة للجلوس في صمت والسماح لمخاوفنا ومشاعرنا المؤلمة بالسيطرة علينا، يمكننا معالجتها وحلّها والتخلّص منها وشفاء مشاكل الصحّة النفسية المزمنة التي سبّبتها.
يقول ألبير كامو: عندما يتعلّم الإنسان كيف يبقى وحيدا مع معاناته وكيف يتغلّب على شوقه للهروب، فلن يتبقّى له الكثير ليتعلّمه".
هذه القوّة العلاجية للعزلة ليست مبالغة. فقد طوّر طبيب ياباني شكلا من أشكال العلاج النفسي قائما على مبادئ الزِن، تخلّى فيه عن التدخّل العلاجي والدوائي لصالح توفير بيئة من العزلة للمريض، حيث يُجبر على مواجهة المعاناة التي كان يتجنّبها.
وعند وصول المريض العصابي إلى المستشفى، يجب عليه أن يستريح تماما في الفراش لمدّة تصل إلى أسبوع. وخلال هذه الفترة، لا يُسمح له بالاختلاط بأيّ شخص آخر. ويجب عليه الامتناع عن القراءة أو الكتابة أو التدخين أو استخدام الهاتف أو الاستماع إلى الراديو أو مشاهدة التلفزيون. ويُترك المريض وحيدا مع مرضه حتى يصبح هو ومرضه شيئا واحدا، وعليه أن يتقبّل مرضه في عزلة تامّة.
كانت معظم ثقافات الماضي، حتى تلك التي كانت الحياة فيها أكثر جماعيةً، مدركةً لفضائل الوحدة العظيمة، بل كانت في بعض الأحيان تقدَّرها أكثر من الاختلاط الاجتماعي. كان الأفراد يقضون فترات طويلة من العزلة لتسهيل التحوّلات الحياتية الكبرى. وكانت رحلات العزلة جزءا لا يتجزّأ من طقوس العبور التي يمرّ بها الصبيّ المراهق إلى مرحلة الرجولة.
فحسب عادات بعض هنود المكسيك، عند بلوغ الطفل السادسة من عمره، يؤخذ ليعيش في البرّية بمفرده لبضعة أشهر ويختفي مع الأغنام دون أن يرى أيّ شخص آخر قبل أن يعود. وأيّ شيء يحتاجه للبقاء على قيد الحياة يجب أن يصنعه أو يبحث عنه بنفسه. كان يصطاد لطعامه ويحمي نفسه وأغنامه من الحيوانات المفترسة ويواجه خوفه من المجهول والظلام. وبذا يحقّق التناغم مع ذاته ويواجه وحدته وقلقه وتبعاتهما ويحوّل عقله من عدوّ عنيد إلى صديق موثوق.
والعزلة الطقوسية هي مقدّمة لحقيقة جوهرية، وهي أنه مهما كانت حياتنا الاجتماعية قبليّة، فإننا في الرحلة وحدنا ويجب أن نتعلّم أن نستمدّ القوّة والعزاء من الداخل. يجب على الصبيّ أن يتعلّم الاعتماد على ذكائه وشجاعته وأسلحته، وإلا هَلك.
يقول توماس وولف: أن تكون حيّا يعني أن تكون في جسد، وأن تكون في جسد يعني أن تكون منفصلا عن جميع الأجساد الأخرى. وأن تكون منفصلا يعني أن تكون وحيدا. وهذا ينطبق على كلّ مخلوق، وينطبق على الإنسان أكثر من أيّ مخلوق آخر. قدره أن يكون وحيدا وأن يدرك هذا. وعظمة الإنسان تكمن في تمركزه داخل ذاته وانفصاله عن عالمه. وحده من يكون وحيدا يستطيع أن يدّعي أنه إنسان. هذه هي عظمة الإنسان، وهذا هو عبئه".
لطالما كانت العزلة شائعة في كلّ ثقافة معروفة عبر التاريخ، باستثناء ثقافتنا اليوم. وهذا يعكس نفور الناس العميق من العزلة. فبدلا من اعتبارها هبة ثمينة، يراها الكثيرون عبئا يجب تحمّله للتخفّف أحيانا من كثرة الارتباطات الاجتماعية. والأسوأ من ذلك، أنه يُنظر إليها كشيء يجب التهرّب منه.
فعندما لا يكون الآخرون متواجدين معنا، يحدّق معظمنا في الشاشات لصرف انتباهنا عن وحدتنا والأصوات التي قد نسمعها في الصمت. ولعلّ هذا الهروب الجماعي من العزلة هو السبب في أن المرض والضعف النفسي أصبحا القاعدة الجديدة. فكما لاحظ فيلسوف القرن السابع عشر بليز باسكال فإن "جميع مشاكل البشرية تنبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس بهدوء في غرفة بمفرده".
ويقول توماس ميرتون: ليس كلّ البشر مدعوّين للانطواء، لكن كلّ البشر يحتاجون إلى ما يكفي من الصمت والعزلة في حياتهم ليتمكّنوا من سماع صوتهم الداخلي العميق، ولو من حين لآخر. وعندما لا يُسمع هذا الصوت الداخلي تصبح الحياة بائسة ومرهقة".
ومع ذلك، فإن الأصوات التي نسمعها في العزلة ليست دائما ممتعة. أحيانا يتضمّن التناغم مع الذات استعادة صدمات الماضي وظهور مشاعر مؤلمة ومخاوف وقلق كنّا نتجنّبها بانغماسنا في ملهيات المجتمع.
وفي حين أن الصراعات والمشاعر التي تظهر في العزلة قد تسبّب المعاناة، فإن ظهورها يمنحنا فرصة لمواجهتها بوعي. وإذا اغتنمنا هذه الفرصة للجلوس في صمت والسماح لمخاوفنا ومشاعرنا المؤلمة بالسيطرة علينا، يمكننا معالجتها وحلّها والتخلّص منها وشفاء مشاكل الصحّة النفسية المزمنة التي سبّبتها.
يقول ألبير كامو: عندما يتعلّم الإنسان كيف يبقى وحيدا مع معاناته وكيف يتغلّب على شوقه للهروب، فلن يتبقّى له الكثير ليتعلّمه".
هذه القوّة العلاجية للعزلة ليست مبالغة. فقد طوّر طبيب ياباني شكلا من أشكال العلاج النفسي قائما على مبادئ الزِن، تخلّى فيه عن التدخّل العلاجي والدوائي لصالح توفير بيئة من العزلة للمريض، حيث يُجبر على مواجهة المعاناة التي كان يتجنّبها.
وعند وصول المريض العصابي إلى المستشفى، يجب عليه أن يستريح تماما في الفراش لمدّة تصل إلى أسبوع. وخلال هذه الفترة، لا يُسمح له بالاختلاط بأيّ شخص آخر. ويجب عليه الامتناع عن القراءة أو الكتابة أو التدخين أو استخدام الهاتف أو الاستماع إلى الراديو أو مشاهدة التلفزيون. ويُترك المريض وحيدا مع مرضه حتى يصبح هو ومرضه شيئا واحدا، وعليه أن يتقبّل مرضه في عزلة تامّة.
كانت معظم ثقافات الماضي، حتى تلك التي كانت الحياة فيها أكثر جماعيةً، مدركةً لفضائل الوحدة العظيمة، بل كانت في بعض الأحيان تقدَّرها أكثر من الاختلاط الاجتماعي. كان الأفراد يقضون فترات طويلة من العزلة لتسهيل التحوّلات الحياتية الكبرى. وكانت رحلات العزلة جزءا لا يتجزّأ من طقوس العبور التي يمرّ بها الصبيّ المراهق إلى مرحلة الرجولة.
فحسب عادات بعض هنود المكسيك، عند بلوغ الطفل السادسة من عمره، يؤخذ ليعيش في البرّية بمفرده لبضعة أشهر ويختفي مع الأغنام دون أن يرى أيّ شخص آخر قبل أن يعود. وأيّ شيء يحتاجه للبقاء على قيد الحياة يجب أن يصنعه أو يبحث عنه بنفسه. كان يصطاد لطعامه ويحمي نفسه وأغنامه من الحيوانات المفترسة ويواجه خوفه من المجهول والظلام. وبذا يحقّق التناغم مع ذاته ويواجه وحدته وقلقه وتبعاتهما ويحوّل عقله من عدوّ عنيد إلى صديق موثوق.
والعزلة الطقوسية هي مقدّمة لحقيقة جوهرية، وهي أنه مهما كانت حياتنا الاجتماعية قبليّة، فإننا في الرحلة وحدنا ويجب أن نتعلّم أن نستمدّ القوّة والعزاء من الداخل. يجب على الصبيّ أن يتعلّم الاعتماد على ذكائه وشجاعته وأسلحته، وإلا هَلك.
يقول توماس وولف: أن تكون حيّا يعني أن تكون في جسد، وأن تكون في جسد يعني أن تكون منفصلا عن جميع الأجساد الأخرى. وأن تكون منفصلا يعني أن تكون وحيدا. وهذا ينطبق على كلّ مخلوق، وينطبق على الإنسان أكثر من أيّ مخلوق آخر. قدره أن يكون وحيدا وأن يدرك هذا. وعظمة الإنسان تكمن في تمركزه داخل ذاته وانفصاله عن عالمه. وحده من يكون وحيدا يستطيع أن يدّعي أنه إنسان. هذه هي عظمة الإنسان، وهذا هو عبئه".
لطالما كانت العزلة شائعة في كلّ ثقافة معروفة عبر التاريخ، باستثناء ثقافتنا اليوم. وهذا يعكس نفور الناس العميق من العزلة. فبدلا من اعتبارها هبة ثمينة، يراها الكثيرون عبئا يجب تحمّله للتخفّف أحيانا من كثرة الارتباطات الاجتماعية. والأسوأ من ذلك، أنه يُنظر إليها كشيء يجب التهرّب منه.
فعندما لا يكون الآخرون متواجدين معنا، يحدّق معظمنا في الشاشات لصرف انتباهنا عن وحدتنا والأصوات التي قد نسمعها في الصمت. ولعلّ هذا الهروب الجماعي من العزلة هو السبب في أن المرض والضعف النفسي أصبحا القاعدة الجديدة. فكما لاحظ فيلسوف القرن السابع عشر بليز باسكال فإن "جميع مشاكل البشرية تنبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس بهدوء في غرفة بمفرده".
Credits
zingtrain.com
zingtrain.com