:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، أبريل 21، 2025

شبَكة بينيلوبي


في لوحة "بينيلوبي والخاطبون"، يصوّر الفنّان جون وليام ووترهاوس مشهدا داخليّا لمنزل في إيثيكا القديمة باليونان، حيث تجلس "بينيلوبي" زوجة أوديسيوس، مرتديةً ملابس حمراء أمام نولها. وتظهر معها خادمتان تساعدانها في نسجها، كلّ منهما ترتدي لباسا زاهي الألوان. وبينيلوبي تدير ظهرها لنافذتين مفتوحتين يطلّ منهما مجموعة من الرجال الذين يتنافسون على كسب ودّها للزواج منها. وأربعة من هؤلاء يقدّمون لها قيثارة وباقة زهور وصندوق مجوهرات وقلادة عنق.
ترى ماذا يفعل المرء بعد غياب عشرين عاما عن موطنه وبيته؟ أوديسيوس، زوج بينيلوبي، قضى عشر سنوات مشاركا في حصار طروادة وعشرا أخرى في تجواله. هل يقضي ليلته الأولى بعد عودته في النوم مع زوجته أم في سرد قصّة رحلاته الطويلة عليها؟ طلبَ أوديسيوس مشورة الإلهة أثينا، فنصحته بكلا الأمرين ومنحته وقتا طويلا ولم تكن هناك ليلة كتلك من قبل.
النظر إلى الحياة البشرية بعيني رجل يحاذر الوقوع في المخاطر أمر مأساوي. لكن النظر إلى الحياة بعيني آلهة جبل الأوليمب لا يخلو من لمسة فكاهية. ومن بين جميع الشعراء، استطاع هوميروس أن يرى الأمر من كلا الزاويتين.
الأوديسّا قصّة مغامرة، وهي أيضا قصّة حقيقية وعميقة عن البشر وعلاقاتهم؛ العلاقة بين الابن وأمّه والابن وأبيه وبين الرجل وزوجته.. وهكذا. وكلّ هذه الروابط الإنسانية يتناولها هوميروس بتحليل مكثّف قلّما رأينا مثله منذ ثلاثة آلاف عام.
هوميروس يدرك أن الفوز في أصعب المغامرات البشرية يتطلّب من الإنسان أن يخوض أعتى المعارك. وأثناء تلك المعارك، يسترخي الآلهة الخالدون في قمّة جبل الاوليمب على مقاعدهم الوثيرة، يشربون من كؤوسهم الذهبية، ويبتسمون لغرور وطموح هذه المخلوقات البشرية الصغيرة أسفل منهم، متأمّلين حبّهم وكرههم ورغباتهم ومخاوفهم.
لعشرين سنة، وبينيلوبي زوجة أوديسيوس الوفيّة تنتظر عودته، راجيةً أن يكون ما يزال على قيد الحياة وأن تتاح لها رؤيته من جديد. لكن ما يزال على أوديسيوس أن يتصالح معها ومع أثينا. الإلهة تحبّه وتعتبره إنسانها المفضّل. ولحسن حظّ أوديسيوس، فإن حبّ أثينا له لا يخالطه غيرة أو كراهية.
غاب أوديسيوس طويلا وعاد الى موطنه متنكّرا في زيّ رجل متسوّل رثّ الثياب، ليجد أن أكثر من مائة شخص قد استولوا على منزله وأخذوا يتنمّرون على زوجته، وكلّ منهم يخطبها لنفسه ويريدها أن تتزوّجه.
وخلال فترة غيابه الطويل، بدأ الخاطبون يشكّون في أنه قد مات في طروادة أو أثناء عودته الى الوطن. وتحت ذريعة التودّد إلى بينيلوبي، اتخذوا مقرّ إقامتهم في منزل أوديسيوس وتنافسوا على طلب يد زوجته للزواج. وكانت ملزمة، بموجب قوانين الضيافة في أثينا، بإطعام هؤلاء الأوغاد وتسليتهم. كانوا يتسكّعون حولها ويأكلون في منزلها.
وبدلا من رفضها لهم، وضعت بينيلوبي خطّة لتأخير قرارها، فزعمت أنها ستختار زوجا بعد أن تنتهي من نسج كفن لتقديمه إلى والد أوديسيوس. ولمدّة ثلاث سنوات، كانت تغزل الكفن نهارا ثم تنكث غزلها ليلا بانتظار عودة زوجها.
كانت تلعب أمام الخاطبين الثقلاء دور العروس المحتملة والمطيعة، بينما ترسّخ نفسها سرّا في قصّتها الخاصّة. وهي في اللوحة تنحني فوق عملها، لا لتختبئ، بل لتُخفي سعيها للحفاظ على نفسها. كما أنها تدرك ما يحيط بها، لكنها تواصل خداعها المحفوف بالمخاطر. وعندما يعلم الخاطبون من إحدى خادماتها أنها تماطل وتخدعهم، يلحّون عليها باختيار زوج من بينهم على الفور.
أوديسيوس، من ناحيته، احتاج إلى بعض الوقت ليضع خطّة تمكّنه من التغلّب على أولئك المتطفّلين دون أن يَلحق به أو بأهله أذى. ولو كشف عن هويّته لزوجته، لربّما حدثت عواقب غير متوقّعة، لذا أبقى بمكرٍ هويّته سرّا. كان أيضا يريد أن يتأكّد من أن بينيلوبي ما تزال تريده وأنها لا تخطّط للزواج من أحد أولئك الخاطبين المزعجين.
نسجُ بينيلوبي كان هِبة من أثينا وكانت له معان متعدّدة في الأوديسّا. فمن ناحية، يمكن فهمه من منظور السرد الشعري للملحمة، لأن أيّ قصّة عظيمة هي في الواقع حكاية منسوجة بالكلمات كالخيوط. وكان نسجها رحلة عبر الزمن وحتى اللحظة التي يعود فيها أوديسيوس. وبتنقّلها ذهابا وإيابا على خيوط النول وفكّها تلك الخيوط نفسها كلّ ليلة، كانت تنسج طريقها إلى الأمام.


كانت تسافر كلّ يوم على أصابعها متحدّية فكرة أن الحياة تحدث فقط في العالم الخارجي وأنه لا يحدث شيء ذو قيمة خارج أنشطة البشر الجماعية. الكثير من الأرواح العظيمة ازدهرت في زنزانة أو سجن أو ضاحية، لكن يجب أن تكون هناك رؤية لما يحدث وأفكار عميقة لخلق التجربة.
ونسجُ بينيلوبي ونقضها الصبور يمثّلان مفارقة في رحلاتها. فإلغاء ما فعلته يعني العودة إلى الوراء والبدء من جديد. وفكّ الخيوط هو ما يُبقي القصّة مستمرّة لأنه يتطلّب غزل خيوط جديدة. كما أنه يمثّل استعارة لمواقف وعادات وأُطر ذهنية قديمة. وعمل بينيلوب على النول يعني السفر إلى أعماق الذات حيث تتلاقى الخيوط بطريقة تُشعل نور التجربة العميقة.
وبينيلوبي تستخدم مهارتها في النسج لغايتين، الأولى إبعاد أولئك الخاطبين المزعجين والثانية خلق شيء ما: نسيج خاص لغرض محدّد؛ كفن مخصّص لقبر حماها. إنها تنسج الموت في الحياة، وبنقضها الكفن كلّ ليلة، فإنها أيضا وبطريقة ما، ترفض احتمال الموت. ووراء كلّ هذا أمل، ورفض بأن تتقبّل فكرة موت زوجها رغم غيابه الطويل.
وكلّ كشف ليليّ للكفن يعكس حالتها النفسية، فهي ممزّقة بين الرجاء واليأس، لكنها لا تستسلم للهزيمة الكاملة. وبهذا التبديل بين الخيوط، خيطا تلو آخر، تعيد تأكيد ذاتها ووفائها باستمرار. في النهار، كانت تضيف إلى نسيجها بدقّة، وفي الليل، تُفكّ خيوطها، محافِظةً على توازن يجسّد ذكاءها وحكمتها. وهذا الاجتهاد والخداع الذكي يتماشى مع حبّ الإغريق للذكاء والمكر الشديدين.
في هذه الملحمة الخالدة، تضع بينيلوبي خطّة ماكرة للبقاء على طبيعتها دون أن تنكسر، وفي نفس الوقت تبدع أسلوبها الخاص في سرد قصائد البطلات. وفي حين يُحتفى بأوديسيوس بسبب صراعه مع العالم، يجب الاحتفاء بالقوّة الهادئة لبينيلوبي التي تسخّر الفنّ كاحتجاج وتعلّم الآخرين درسا ثمينا في كيفية العيش بين واقعين والتمسّك بموقفها في حرب نفسية طويلة.
كثيرا ما تثير الارتباطات الأنثوية بالزينة ونسج الأقمشة مخاوف من الأقنعة والحِيَل. كما أن ارتباط النساء بالقماش يستحضر ارتباطات النسيج كفنّ للخداع. وفي قصّة بينيلوبي، لم يكن النسج مجرّد هواية، بل كان أداة استراتيجية في سعيها نحو الاستقلالية والقوّة الداخلية. وبراعتها تشكّل أساسا للنقاشات حول القدرة على التأثير والمرونة والإيمان في مواجهة تحدّيات الحياة المتقلّبة وإثبات أن البطل الأضعف يمكن أن يقلب الموازين أحيانا دون أن يرفع سيفاً؛ فقط بكرة خيط.
في لوحته، يحتفي ووترهاوس بـ بينيلوبي كرمز للإخلاص والبراعة. ولأن الفنّان رسم الصورة في انغلترا خلال الحرب العالمية الأولى، يمكن اعتبارها ذات صدى في سياق الحرب. فربّما تشير الى تحوّل الأدوار المنزلية مع إرسال الرجال إلى المعركة، وقد ترمز الى احتفاء الرسّام بصمود النساء ووفائهنّ على الجبهة الداخلية.
بقيّة قصّة بينيلوبي معروفة، إذ يتصل أوديسيوس الماكر بأبيه العجوز وابنه تيليماكوس ويخطّطوون معا للانتقام من الخاطبين وينتصر أوديسيوس أخيرا عليهم بقتلهم. هل أخطأ أم أصاب في قراره بقتلهم؟ هذه مسألة نسبية وتعتمد على تفسير المرء للعدالة والأخلاق والقيم الثقافية السائدة في ذلك العصر.
بحسب الأوديسّا، بعد أن يموت الخاطبون، وعند وصولهم إلى هيديز أو العالم السفلي، فإنهم لا يشتكون من أوديسيوس وسيفه العظيم، بل يشتكون من شبَكة بينيلوبي وخداعها لهم.

Credits
johnwilliamwaterhouse.net
thearchetypaleye.com