تذكر مارجوري نيكلسون في كتابها "من كآبة الجبال إلى مجدها" أن معظم الشعراء الذين تغنّوا بالجبال لم يفعلوا ذلك عن تجربة شخصية، بل ربّما كان تأثّرا بروح العصر الذي عاشوا فيه. ومن هؤلاء الشعراء الرومانسيون الذين نظروا الى الجبال بمزيج من مشاعر الرهبة والافتتان.
وبالنسبة للشعراء والكتّاب الإنغليز في القرن السابع عشر، كانت الجبال عبارة عن نتوءات قبيحة تشوّه الطبيعة وتهدّد تناسق الأرض، كما كانت رموزا لغضب الله. لكن بعد أقلّ من قرنين من الزمان، تغنّى الشعراء الرومانسيون بجمال الجبال وارتفاعاتها الشامخة التي تسمو بالروح البشرية الى النشوة الإلهية.
وتتناول المؤلّفة النهضة الفكرية في نهاية القرن السابع عشر التي أحدثت تحوّلا في النظرة الى الجبال من كونها عنصرا لا يجلب الا الكآبة والحزن الى عنصر يذكّر بسموّ الله وجلاله.
كما تدرس أعمال كتّاب مختلفين من القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وتتتبّع أسباب هذا التغيير الجذري في إدراك الجبال وعملية حدوثه. وتقتبس من كلام الناقد جون راسكين قوله: يبدو أن الإغريق، كفنّانين، لم يكونوا على دراية بوجود الجبال في العالم. لقد صوّروا بشرا وخيولا ووحوشا وطيورا وجميع أنواع الكائنات الحيّة، ولكن لم يرسموا جبلا واحدا".
وبحسب نيكلسون، لم تصبح الجبال الرموز الروحية التي نعرفها اليوم إلا في القرن الثامن عشر بين الشعراء والرسّامين الإنغليز، عندما بدأت هذه التشكيلات الطبيعية العالية والمنحوتة في إثارة مشاعر الرهبة والإجلال. وقبل ذلك، كان الناس ينظرون الى القمم الضخمة بتجاهل وخوف ويعتبرونها خشنة وقبيحة ومثيرة للاشمئزاز وعائقا أمام حركة الانسان.
وفي القرن الحادي والعشرين، بدأنا نستمتع بوفرة من الصور التي تحتفي بكلّ قمّة جبل على وجه الأرض وتصوّر الجبال وهي محاطة بسحب هائلة تتخلّلها أشعّة الشمس أو وهي مشبعة بألوان تثير البهجة والسرور.
وتذكّر المؤلّفة أن الصينيين أدركوا القيمة الجمالية للجبال قبل الأوروبيين بزمن طويل، بل لقد ابتكروا فنّ رسم المناظر الطبيعية في القرون الأولى قبل الميلاد، كما طوّروا تقليدا يحتفي بالقمم الجبلية الوعرة والأشجار والمعابد فيها. وقد استقى شعراء وحكماء الصين المعرفة والإلهام من هذه المشاهد في مطلع الألفية الأولى، أي قبل أكثر من ألف عام من اكتشافات الكُتّاب الإنغليز.
وخلال السبعة عشر قرنا الأولى من العصر المسيحي خيّمت ظلمة الجبال على أعين البشر بسبب ما تعلّموه في المدارس وما سمعوه في الكنائس وما قرأوه في الكتب، لدرجة أن الشعراء لم يروا الجبال ولو للحظة وهي بكامل تألّقها ومجدها الذي اعتادت عليه أعيننا الآن.
❉ ❉ ❉
فقد رفض القاضي شهادة الشخص الوحيد الذي كان بإمكانه إثبات براءته. وأُدين هاميلتون وحُكم عليه بالسجن 25 عاما. ثم استأنف القضية وتمّت تبرئته. لكن بعد ثمانية أشهر فقط، أُلقي القبض عليه مجدّدا بتهمة القتل وحُكم عليه ظلما بالسجن المؤبّد.
وفي السجن، بدأ هاميلتون دراسة المحاماة وقرأ ما استطاع من كتب القانون. ثم درس قضيّته وقضايا عشرات السجناء الآخرين الذين أُدينوا ظلماً. ورغم أن 30 عاما سُرقت من حياته بلا مبرّر، إلا أنه استطاع مساعدة عدد لا يُحصى من الآخرين بخبرته القانونية التي اكتسبها بالعزيمة والمثابرة. وهو اليوم حرّ طليق.
معظم الناس الذين يكملون محكوميّاتهم يذهبون الى المجهول وينشغلون بمداواة جروحهم. لكن ديريك لم يفعل ذلك. وهو معروف اليوم بأنه أكثر محامي السجون نشاطا وأحد أهمّ الأشخاص الذين يحاولون إصلاح العدالة الجنائية في أمريكا. وبفضل جهوده، تمكّن من إطلاق سراح ما يزيد على 100 شخص أُدينوا ظلما.
وفي مقابلة معه، سُئل هاميلتون كيف تجاوزَ شعوره بالغضب والإحباط فقال: لا أظنّ أنني تجاوزت ذلك الشعور، إلا أنني قرّرت تحويله إلى شيء آخر".
قصّة ديريك هاميلتون تعكس أحد المفاهيم الأساسية في الرواقية، وهو فنّ الرضوخ الذي يعلّم الإنسان تقبّل الأمور الخارجة عن سيطرته بدلا من مقاومتها. والرضوخ لا يعني قبولا سلبيّا ولا استسلاما، بل يعني تَقبُّل الوضع والبحث عن طريقة ما للتغلّب عليه.
كان الرواقيون يعتقدون أن الكون يحكمه نظام عقلاني وإلهي يُشار إليه عادة باسم "لوغوس" أو القدَر. وأنه بينما لا نستطيع التحكّم في الأحداث الخارجية عندما تُلقي بنا الأقدار في مهبّ الريح، إلا أننا نستطيع ضبط ردود أفعالنا تجاهها وخوض تحدّيات الحياة بصبر وحكمة وأناة.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
وُلِد كيرشنر في ألمانيا عام 1880 وقضى معظم طفولته في فرانكفورت. وعندما تخرّج من المدرسة الثانوية حصل على جائزة أفضل طالب فنون. ثم بدأ دراسة الهندسة المعمارية في دريسدن ولاحقا في ميونيخ. درس أعمال الانطباعيين ثم أسّس مع زملائه الطلاب في دريسدن جمعية الفنّانين التعبيريين المسمّاة "الجسر" عام 1905.
كان فنّانو هذه المجموعة يسعون إلى أصالة التعبير التي أحسّوا انها فُقدت بسبب ابتكارات الحياة العصرية. وقد تأثّر هؤلاء الفنّانون بالمدرسة الوحوشية وبالرسّام النرويجي إدڤارد مونك في تركيزهم على استكشاف الإمكانيات التعبيرية للألوان والأشكال والتوليف وتوظيفها في رسم صور الحياة المعاصرة.
كان العديد من الفنّانين أعضاء "الجسر" يشعرون بالنفور من التصنيع ويرون أن الحياة العصرية تُبعد المجتمع عن السلوك الأصيل للعصور السابقة وأنه ينبغي تناول هذا الأمر في لوحاتهم. وقد ألهم التعبيريون الألمان نظرائهم في أوربّا الذين كانوا يحتقرون السلع المصنّعة التي حلّت مكان التقنيات التقليدية، ما أدّى إلى انخفاض الجودة والإبداع لصالح انخفاض الأسعار.
في مراسلاته مع بعض أصدقائه، كتب كيرشنر أنه وجد دريسدن مكانا مثيرا للاهتمام ويزخر بشخصيات غير عادية تناسب تماما تصويره لحياة المدينة. وقد وجد هذه المدينة مزدحمة وشعر بأنه مضطرّ للسماح لها بأن تغمره وتأخذه في أيّ اتجاه تختاره.
في الفترة من 1913 إلى 1916 رسم كيرشنر سلسلة من المشاهد لمدينة برلين، ولكن هذه اللوحة لشارع في دريسدن مكتظّ بالمشاة وبعربة ترام هي أحد أعماله الايقونية والمهمّة. ومن الواضح أن موضوعها هو الحشود الصاخبة والأضواء النابضة بالحياة في المدينة الحديثة.
الشارع في الصورة مزدحم ويشعّ توتّرا. والجميع فيه منعزلون ووجوههم شبحية وأشبه ما تكون بالأقنعة وعيونهم فارغة. ضربات الفنّان الجريئة والمعبّرة والتجسيد المشوّه للشخصيات تثير شعورا بالاضطراب والحركة والطاقة المحمومة للحياة الحضرية في أوائل القرن العشرين.
وبعض الشخصيات في اللوحة تبدو وكأنها تتقدّم باتجاه الناظر بوجوه تخلو من التعبيرات، بينما يبدو آخرون وكأنهم يبتعدون مديرين ظهورهم. وتحت أقدام المشاة يظهر شارع "ورديّ"، ولأنه لا يوجد ضوء أو ظلال في اللوحة، فإن الشارع يضيف الى المشهد شعورا بالاختناق.
واختيارات الرسّام للألوان تعزّز الانطباع بأن الحياة في المدينة يمكن أن تكون مزدحمة ومزعجة ومليئة بالقلق. هكذا يرى كيرشنر الحياة العصرية في المدينة: لهاث لا يهدأ وبشر بتعابير شبحية ونظرات تائهة. وبإمكانك أن تجد شيئا مثل هذا في لوحات مونك التي صوّر فيها حياة المساء في شوارع أوسلو.
في عام 1913، وبعد مشاجرة بين أعضائها، حُلّت جمعية الجسر. وبعدها بعامين أدّى كيرشنر الخدمة العسكرية الإلزامية، وأثناء ذلك أصيب بانهيار عصبي، ثم عانى مرارا من الاكتئاب، ما ترك آثارا على فنّه. وفي عام ١٩٣٣، صنّف النازيون لوحاته بأنها "فنّ منحط"، ثم باعوا أو أتلفوا المئات منها. وفي عام ١٩٣٨، انتحر بإطلاق الرصاص على نفسه.
❉ ❉ ❉
في هذه المدينة العظيمة التي لا نهاية لها
ومع ذلك، تمرّ الأيّام والأسابيع سريعا
وقبل أن أنتبه، يمرّ عام.
ولا أرى وجه صديقي القديم أبدا
فالحياة سباق سريع ومرعب
هو يعلم أنني أحبّه كثيرا
كما في الأيّام التي كنت فيها اتّصل به ويتّصل بي.
كنّا أصغر سنّاً وقتها
والآن نحن مشغولان ومتعبان.
سئمنا من هذه اللعبة الحمقاء
سئمنا من محاولة صنع اسم.
"غداً" أقول "سأزور "جيم"
فقط لأُظهِر له أنني ما زلت أفكّر فيه.
لكن الغد يأتي ويذهب
والمسافة بيننا تتّسع وتكبر.
عند الزاوية، على بعد أميال
"هذه برقية يا سيّدي"
"توفّي جيم اليوم".
هذا ما نناله ونستحقّه في النهاية.
عند الزاوية، صديق فقدناه.
هينسون تاون
Credits
archive.org
en.henze-ketterer.ch
archive.org
en.henze-ketterer.ch