في عام 1774، تمكّن الروس من إخضاع خانية القرم لنفوذهم. وبعد ذلك بعشر سنوات، تمّ ضمّ شبه الجزيرة رسميّا إلى روسيا. ثم أصبحت جزءا من أراضي اوكرانيا التي كانت في ما مضى جزءا من الاتحاد السوفياتي.
وبعد مرور حوالي عشرين عاما على بناء نافورة بختشي سراي، وكان الخان غيراي وقتها قد توفّي، قدمت إلى المنطقة الإمبراطورة كاثرين العظيمة لزيارة النافورة والقصر. تفاصيل تلك الزيارة وكلمات الإمبراطورة تبيّن أن القصر كان له تأثير هائل على المخيّلة الرومانسية الروسية.
كان قصر بختشي سراي المحطّة الأخيرة في جولة كاثرين احتفالا بإلحاقها الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية في الحرب الروسية التركية التي انتهت عام 1774 وأسفرت عن ضمّ الروس نهائيا لشبه جزيرة القرم.
ولا بدّ وأن منظر كاثرين العظيمة وهي تزور ذلك المكان كان مهيبا. كان يرافقها اثنا عشر ألف فارس من فرسان التتار بأسلحتهم وملابسهم الباذخة، بالإضافة إلى حرس الشرف وحاشية من أكثر من ألفي رجل.
كان العقل المدبّر لتلك الزيارة هو الأمير غريغوري بوتيمكين، أقوى رجل في روسيا آنذاك وصديق كاثرين الحميم، الذي كان قد أعطى أوامره بترميم قصر الخان وتجديده بهدف جعله "قصر الحمراء" الروسي.
وقد نجح بوتيمكين في التأثير على كاثرين بدليل هذه الكلمات التي كتبتها له ليلة وصولها: استلقيت ليلة واحدة في منزل الخان الصيفي وسط المسلمين والدين الإسلامي. أمام هذا البيت بُني مسجد ينادي فيه إمام للصلاة خمس مرّات في اليوم. فكّرت في النوم، ولكن ما أن أغمضت عينيّ حتى وضع يديه في أذنيه وزأر بكلّ قوّة. يا إلهي الرحيم! مَن من بين أسلافي كان ينام بسلام بين جحافل القبائل وخاناتهم؟! إن ما يمنعني من النوم في بختشي سراي هو دخان التبغ وهذا الهدير.
كانت كاثرين احد الرومانسيين الكبار في التاريخ. وقد بقيت في بختشي سراي ثلاثة أيّام. ويمكن للمرء أن يتخيّل أنها ورجال حاشيتها كانوا يمضون الأمسيات وهم يستمعون إلى تساقط مياه النافورة وما تتركه من أصداء طويلة في فناء القصر.
في عام 1944، وخلال الحرب العالمية الثانية، أبعد النظام السوفياتي شعب تتار القرم بشكل جماعي إلى أراضي ما يُعرف الآن بأوزبكستان وأجزاء أخرى من آسيا الوسطى، انتقاما لتعاون بعض التتار مع ألمانيا النازية. وفي غضون عامين، توفّي 40 بالمائة من المرحّلين.
وأعقب ذلك التطهير العرقي تطهير ثقافي، إذ تمّ تدمير الآثار التاريخية واللغوية لتتار القرم بالإضافة إلى عدد كبير من المساجد والمقابر. كما استُبدلت جميع الأسماء الإسلامية التي أطلقها التتار على المدن والبلدات والقرى في شبه الجزيرة بأسماء روسية.
واقترح النظام اسما جديدا لقصر غيراي خان بديلا عن بختشي سراي هو بوشكينيسك "نسبة إلى بوشكين". بل إن البعض اقترحوا تدمير القصر بكامل محتوياته، باعتباره الشاهد الصامت على تاريخ شعب حُرم من حقّه في العيش بحرّية على أرض آبائه وأجداده. لكن في النهاية أدركت السلطات في موسكو أنها لن تتمكّن من محو قصيدة بوشكين، فأبقت على اسم القصر والنافورة.
اهتمام روسيا الجيوبوليتيكي بشبه جزيرة القرم يعود إلى زمن بطرس الأكبر. لكن الأمر لا يحتاج سوى لقصيدة شعر لنفهم مكانة القرم في الروح الروسية. وليس من المبالغة القول إن خيال بوشكين منح حياة جديدة للنافورة والقصر اللذين بقي اسمهما دون تغيير بعد أن نجت مبانيهما من آثار الحقبة السوفياتية.
وبسبب هذه القصيدة، فإن حوالي نصف مليون سائح يأتون سنويا من روسيا لزيارة القصر ورؤية المكان الذي تجري فيه قصّة نافورة الدموع التي حوّلها بوشكين إلى رمز للحبّ الخالد في الأدب العالمي.
ولمئات السنين، تعاقبت على جزيرة القرم حضارات عديدة حاول بعضها مسح أيّ اثر للقصر أو النافورة. لكنهما بقيا لأن قصّتهما حرّكت مشاعر الروس والقياصرة. وربّما لولا قصيدة بوشكين لضاع القصر إلى الأبد.
واليوم، فإن قصر الخان، مع المسجد والمقبرة وغيرهما من ملحقاته، هي المعالم الكبرى الوحيدة المتبقّية من الفنون البصرية لخانية التتار. لكن بالنسبة لأبناء الخانية الحاليين، فإن القصر يعني قلب الأمّة ورمز ثقافتها.
صحيح أن النافورة تبدو اليوم متواضعة. لكن الحلم ما يزال على حاله. وما يزال القصر يتذكّر ماضيه الذي كان ذات زمن يشبه الفردوس.
Credits
online-literature.com
roses-crimea.com
وبعد مرور حوالي عشرين عاما على بناء نافورة بختشي سراي، وكان الخان غيراي وقتها قد توفّي، قدمت إلى المنطقة الإمبراطورة كاثرين العظيمة لزيارة النافورة والقصر. تفاصيل تلك الزيارة وكلمات الإمبراطورة تبيّن أن القصر كان له تأثير هائل على المخيّلة الرومانسية الروسية.
كان قصر بختشي سراي المحطّة الأخيرة في جولة كاثرين احتفالا بإلحاقها الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية في الحرب الروسية التركية التي انتهت عام 1774 وأسفرت عن ضمّ الروس نهائيا لشبه جزيرة القرم.
ولا بدّ وأن منظر كاثرين العظيمة وهي تزور ذلك المكان كان مهيبا. كان يرافقها اثنا عشر ألف فارس من فرسان التتار بأسلحتهم وملابسهم الباذخة، بالإضافة إلى حرس الشرف وحاشية من أكثر من ألفي رجل.
كان العقل المدبّر لتلك الزيارة هو الأمير غريغوري بوتيمكين، أقوى رجل في روسيا آنذاك وصديق كاثرين الحميم، الذي كان قد أعطى أوامره بترميم قصر الخان وتجديده بهدف جعله "قصر الحمراء" الروسي.
وقد نجح بوتيمكين في التأثير على كاثرين بدليل هذه الكلمات التي كتبتها له ليلة وصولها: استلقيت ليلة واحدة في منزل الخان الصيفي وسط المسلمين والدين الإسلامي. أمام هذا البيت بُني مسجد ينادي فيه إمام للصلاة خمس مرّات في اليوم. فكّرت في النوم، ولكن ما أن أغمضت عينيّ حتى وضع يديه في أذنيه وزأر بكلّ قوّة. يا إلهي الرحيم! مَن من بين أسلافي كان ينام بسلام بين جحافل القبائل وخاناتهم؟! إن ما يمنعني من النوم في بختشي سراي هو دخان التبغ وهذا الهدير.
كانت كاثرين احد الرومانسيين الكبار في التاريخ. وقد بقيت في بختشي سراي ثلاثة أيّام. ويمكن للمرء أن يتخيّل أنها ورجال حاشيتها كانوا يمضون الأمسيات وهم يستمعون إلى تساقط مياه النافورة وما تتركه من أصداء طويلة في فناء القصر.
في عام 1944، وخلال الحرب العالمية الثانية، أبعد النظام السوفياتي شعب تتار القرم بشكل جماعي إلى أراضي ما يُعرف الآن بأوزبكستان وأجزاء أخرى من آسيا الوسطى، انتقاما لتعاون بعض التتار مع ألمانيا النازية. وفي غضون عامين، توفّي 40 بالمائة من المرحّلين.
وأعقب ذلك التطهير العرقي تطهير ثقافي، إذ تمّ تدمير الآثار التاريخية واللغوية لتتار القرم بالإضافة إلى عدد كبير من المساجد والمقابر. كما استُبدلت جميع الأسماء الإسلامية التي أطلقها التتار على المدن والبلدات والقرى في شبه الجزيرة بأسماء روسية.
واقترح النظام اسما جديدا لقصر غيراي خان بديلا عن بختشي سراي هو بوشكينيسك "نسبة إلى بوشكين". بل إن البعض اقترحوا تدمير القصر بكامل محتوياته، باعتباره الشاهد الصامت على تاريخ شعب حُرم من حقّه في العيش بحرّية على أرض آبائه وأجداده. لكن في النهاية أدركت السلطات في موسكو أنها لن تتمكّن من محو قصيدة بوشكين، فأبقت على اسم القصر والنافورة.
اهتمام روسيا الجيوبوليتيكي بشبه جزيرة القرم يعود إلى زمن بطرس الأكبر. لكن الأمر لا يحتاج سوى لقصيدة شعر لنفهم مكانة القرم في الروح الروسية. وليس من المبالغة القول إن خيال بوشكين منح حياة جديدة للنافورة والقصر اللذين بقي اسمهما دون تغيير بعد أن نجت مبانيهما من آثار الحقبة السوفياتية.
وبسبب هذه القصيدة، فإن حوالي نصف مليون سائح يأتون سنويا من روسيا لزيارة القصر ورؤية المكان الذي تجري فيه قصّة نافورة الدموع التي حوّلها بوشكين إلى رمز للحبّ الخالد في الأدب العالمي.
ولمئات السنين، تعاقبت على جزيرة القرم حضارات عديدة حاول بعضها مسح أيّ اثر للقصر أو النافورة. لكنهما بقيا لأن قصّتهما حرّكت مشاعر الروس والقياصرة. وربّما لولا قصيدة بوشكين لضاع القصر إلى الأبد.
واليوم، فإن قصر الخان، مع المسجد والمقبرة وغيرهما من ملحقاته، هي المعالم الكبرى الوحيدة المتبقّية من الفنون البصرية لخانية التتار. لكن بالنسبة لأبناء الخانية الحاليين، فإن القصر يعني قلب الأمّة ورمز ثقافتها.
صحيح أن النافورة تبدو اليوم متواضعة. لكن الحلم ما يزال على حاله. وما يزال القصر يتذكّر ماضيه الذي كان ذات زمن يشبه الفردوس.
Credits
online-literature.com
roses-crimea.com