حتى مع استمرار تقلّص مساحات الغابات في العالم، يبدو الأدباء والكتّاب والفنّانون ميّالين أكثر فأكثر إلى تصوير الغابات كواحات للخلاص وملاذات للتحرّر من قيود وآفات الحضارة المعاصرة.
أبطال القصص الخرافية غالبا ما يجدون طريقهم إلى الغابة. هناك يضيعون ثم يجدون أنفسهم، ويكتسبون فكرة عمّا يجب القيام به. والغابة دائما هائلة وغامضة. لا يمكن أن يفرض أحد سلطته عليها على الإطلاق، لكنها تملك القدرة على تغيير الحياة وتغيير المصائر.
الغابة، هذا الفضاء البرّي يمثّل حدود قدرة الإنسان، وهو مكان يمكن أن يحدث فيه أيّ شيء.
في ملحمة غلغامش، يسافر الأبطال إلى غابة الأرز لمحاربة الوحوش. وغابة ميركوود لتولكين، المستمدّة من الأساطير الإسكندنافية، تُعتبر غابة سحرية خطرة للغاية، لدرجة أنه حتى الآلهة كانت حذِرة من دخولها. ودانتي يبدأ رحلته الشعرية الملحمية في غابة معتمة وغامضة، حيث يضلّ طريقه. كان الرومان يعتقدون أن المدخل الى الهاوية المؤدّية الى الجحيم يمرّ عبر غابة.
وفي ملحمة فرجيل، يقرّر البطل اينياس الذهاب إلى العالم السفلي ليرى طيف والدته الراحلة. وفي الطريق يقابل عرّافة توافق على مرافقته في الرحلة. ويذهب الاثنان إلى مكان فيه بحيرة عميقة تحيطها غابة مظلمة يُفترض أنها تقود إلى عالم الموتى. الرسّام وليام تيرنر تخيّل ذلك المنظر واستبدل البحيرة الأسطورية ببحيرة حقيقية.
أسطورة الرجل الذئب تفترض أن بعض البشر، وبفعل قوى خفيّة وشرّيرة، يتحوّلون في الليل إلى ذئاب تعوي وتتجوّل في الغابات والجبال بحثا عن فرائس. فإذا ما بزغ الفجر تخفّفوا من شخصياتهم الذئبية وعادوا إلى طبيعتهم البشرية.
في القصص الخيالية الحديثة، مثل المستذئب ومصّاص الدماء وبياض الثلج وهاري بوتر وغيرها، تكون الغابة محطّة أساسية في رحلة البطل ومكانا للخطر والاحتمال والمغامرة. وأحيانا تُصوّر على أنها حالمة ومصدر للأمل. لكن يمكن أن تكون الغابة أيضا مكانا للوحوش والشياطين الداخلية والقرناء والأشباح التي كثيرا ما تُربط بالجزء البدائي من الانسان.
وفي الأساطير الألمانية القديمة، تشكّل الغابة بوّابة مفتوحة على عالم غامض تسكنه مخلوقات غريبة لا تظهر إلا ليلا. لوحة الرسّام كاسبار دافيد فريدريش "رجلان يتأمّلان القمر" تعكس هذه الفكرة تماما. فالقمر يبدو مثل عين تكشف أسرار الغابة الخضراء المظلمة للرجلين اللذين يراقبانها من نقطة عالية وهما مختبئان خلف شجرة.
الغابات تشكّل حوالي 30 بالمائة من مساحة أراضي ألمانيا. وعبر تاريخهم، كان الألمان يتخيّلون وطنا تغطّيه الغابات من أقصاه إلى أقصاه. وهم يرون في الغابة طبيعة وطنية وأسطورة قومية ومستودعا قويّا للذكريات التاريخية.
الفنّان الايطالي ساندرو بوتيتشيللي اختار غابة أسطورية متخيّلة ليضع فيها شخصيات لوحته الأشهر "الربيع" التي رسمها في فلورنسا في القرن الخامس عشر.
وقد أحصى بعض علماء النبات أكثر من 400 نوع من النباتات في اللوحة، منها حوالي 200 زهرة. ولأنها تتضمّن صور شخصيات مثل فينوس ربّة الجمال والملهمات الثلاث وفلورا ربّة الربيع التي ترتدي ثوبا مشجّرا، فقد شاع انطباع بأن اللوحة صورة مجازية عن الزواج.
بابلو نيرودا، شاعر تشيلي، يقول واصفا رحلة له ذات يوم في غابة من غابات بلاده:
أسفل البراكين وبجوار الجبال المغطّاة بالثلوج ووسط البحيرات الضخمة، تقع الغابة التشيلية العطرة والصامتة والمتشابكة الأشجار.
أمّة من الطيور ووفرة من أوراق الشجر. تغوص قدماي في الأوراق الميّتة. يفرقع غصين هشّ. ترتفع أشجار الراولي العملاقة بكلّ خشونتها. وعلى ارتفاع شاهق، يمرّ طائر في الغابة الباردة، يرفرف بجناحيه، ويتوقّف في الأغصان التي لا شمس فيها. أنفاس عذبة تداعب وجهي، بينما يختفي قوس قزح اللامع مثل البرق.
ويضيف: أمُرّ عبر غابة من السرخس أطول منّي بكثير. ومن عيونها الخضراء الباردة، تتساقط ستّون دمعة على وجهي. وفي الأسفل، تنزلق المياه البلّلورية فوق الغرانيت واليشَب، وتمرّ فراشة مشرقة كالليمون، ترقص بين الماء وأشعّة الشمس. وفي الأعلى، تتدلّى نقشات حمراء من أزهار اللاباجيريا مثل قطرات من شرايين الغابة السحرية.
ثعلب يقطع الصمت مثل وميض ويرسل رعشة عبر الأوراق. صرخات مسموعة بالكاد لبعض الحيوانات الحائرة من بعيد. لكن الصمت هو قانون مملكة النباتات. إن أيّ شخص لم يرَ الغابة التشيلية لا يعرف هذا الكوكب. لقد خرجتُ من هذا المشهد الطبيعي الذي يمتزج فيه الطين بالصمت، لأتجوّل وأغنّي في هذا العالم".
أبطال القصص الخرافية غالبا ما يجدون طريقهم إلى الغابة. هناك يضيعون ثم يجدون أنفسهم، ويكتسبون فكرة عمّا يجب القيام به. والغابة دائما هائلة وغامضة. لا يمكن أن يفرض أحد سلطته عليها على الإطلاق، لكنها تملك القدرة على تغيير الحياة وتغيير المصائر.
الغابة، هذا الفضاء البرّي يمثّل حدود قدرة الإنسان، وهو مكان يمكن أن يحدث فيه أيّ شيء.
الغابات تشكّل حوالي 30 بالمائة من مساحة أراضي ألمانيا. وعبر تاريخهم، كان الألمان يتخيّلون وطنا تغطّيه الغابات من أقصاه إلى أقصاه. وهم يرون في الغابة طبيعة وطنية وأسطورة قومية ومستودعا قويّا للذكريات التاريخية.
وقد أحصى بعض علماء النبات أكثر من 400 نوع من النباتات في اللوحة، منها حوالي 200 زهرة. ولأنها تتضمّن صور شخصيات مثل فينوس ربّة الجمال والملهمات الثلاث وفلورا ربّة الربيع التي ترتدي ثوبا مشجّرا، فقد شاع انطباع بأن اللوحة صورة مجازية عن الزواج.
أسفل البراكين وبجوار الجبال المغطّاة بالثلوج ووسط البحيرات الضخمة، تقع الغابة التشيلية العطرة والصامتة والمتشابكة الأشجار.
أمّة من الطيور ووفرة من أوراق الشجر. تغوص قدماي في الأوراق الميّتة. يفرقع غصين هشّ. ترتفع أشجار الراولي العملاقة بكلّ خشونتها. وعلى ارتفاع شاهق، يمرّ طائر في الغابة الباردة، يرفرف بجناحيه، ويتوقّف في الأغصان التي لا شمس فيها. أنفاس عذبة تداعب وجهي، بينما يختفي قوس قزح اللامع مثل البرق.
ويضيف: أمُرّ عبر غابة من السرخس أطول منّي بكثير. ومن عيونها الخضراء الباردة، تتساقط ستّون دمعة على وجهي. وفي الأسفل، تنزلق المياه البلّلورية فوق الغرانيت واليشَب، وتمرّ فراشة مشرقة كالليمون، ترقص بين الماء وأشعّة الشمس. وفي الأعلى، تتدلّى نقشات حمراء من أزهار اللاباجيريا مثل قطرات من شرايين الغابة السحرية.
ثعلب يقطع الصمت مثل وميض ويرسل رعشة عبر الأوراق. صرخات مسموعة بالكاد لبعض الحيوانات الحائرة من بعيد. لكن الصمت هو قانون مملكة النباتات. إن أيّ شخص لم يرَ الغابة التشيلية لا يعرف هذا الكوكب. لقد خرجتُ من هذا المشهد الطبيعي الذي يمتزج فيه الطين بالصمت، لأتجوّل وأغنّي في هذا العالم".
ومن الأمثلة المشهورة على طفل الغابة رومولوس مؤسّس روما الذي يقال انه تربّى وعاش في رعاية ذئبة، وموغلي الذي ابتكر حكايته الكاتب الانغليزي كيبلنغ، وإنكيدو بطل ملحمة غلغامش الذي عاش مع السباع وتطبّع بطباعها إلى أن روّضته امرأة، وحيّ ابن يقظان الذي أرضعته وربّته غزالة، وأخيرا الطفلة التي رعتها نعامة في الصحراء الكبرى وأصبحت تتصرّف مثل قطيع النعام الذي عاشت معه، فتسابقهم وتأكل أكلهم وتعيش مثلما يعيشون.
ويبدو أن ابتكار مثل هذه القصص وانتشارها يعكس حنين الإنسان إلى حياة أسلافه الذين عاشوا في البراري والغابات منذ أقدم الأزمنة. وهناك سبب آخر يتمثل في أن شخصيات هذه القصص تنجح في عبور الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان، بين الطبيعي وغير الطبيعي وبين الحضاري والفطري.
وربّما هناك عامل آخر هو افتتان الإنسان بالوحش الذي بداخله، وإعجابه بالفكرة القديمة عن "الهمجيّ النبيل" الذي لم تلوّثه الحضارة الحديثة وظلّ محتفظا في داخله بنقاء وطيبة الإنسان الأوّل.
كانت رسالة الشاعر موجّهة ظاهريا لتلك الأشجار. لكنه كان طبعا يخاطب الإنسان في كلّ مكان. الفلسفة الطاوية احتفت بهذه الأشجار منذ القدم وتناولت صفاتها الرمزية. فعيدان الخيزران مفرغة من الداخل، لكن ذلك الفراغ هو مصدر قوّتها وبقائها. فهي تنحني بمرونة أمام العواصف، ثم لا تلبث أن تقف من جديد بعد زوال الخطر. ولهذا ينصح الفيلسوف لاو تسو الإنسان بأن يكون مرنا وقويّا كالخيزران.