:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، مايو 13، 2024

زوبعة في فنجان


ولد كاكوزو أوكاكورا (1862-1913) في اليابان. ولكنه تلقّى تعليمه، بناءً على رغبة والده، وفقا للتقاليد الإنغليزية. وقد أخذته رحلته المذهلة من يوكوهاما في اليابان إلى نيويورك وباريس وبومباي وبوسطن، حيث تشابكت حياته مع شخصيات بارزة مثل رابندراناث طاغور وجون سينغر سارجنت وهنري جيمس وجون لا فارج وهنري ماتيس وغيرهم.
وقد ألّف أوكاكورا في عام 1906 "كتاب الشاي" الذي أصبح واحدا من أكثر الكتب تأثيرا في القرن العشرين وتُرجم إلى أكثر من 40 لغة. وظهر الكتاب أوّل ما ظهر في أمريكا في مطلع القرن العشرين وقُرئ في الصالون الشهير لإيزابيلا ستيوارت غاردنر، الشخصية الاجتماعية الأكثر شهرةً في بوسطن في ذلك الوقت.
وبعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على صدوره، لا يزال الكتاب محبوبا في جميع أنحاء العالم لتناوله التاريخ الغنيّ للشاي الياباني ومكانته في ذلك المجتمع، بالإضافة الى حديثه عن الثقافات الآسيوية وعن الفنّ والروحانية والشعر.
وفيما بعد أصبح "كتاب الشاي" نصّا مركزيّا في الحركة الاستشراقية في أوائل القرن العشرين وأُعجب به شعراء مثل جون إليوت وإزرا باوند وغيرهما. ويمكن العثور على الكتاب اليوم في مكتبات الفلاسفة والفنّانين وأخصائيي الشاي حول العالم.
في كتابه، يناقش أوكاكورا موضوعات مثل الزّن والطاوية، بالإضافة الى الجوانب الاجتماعية والثقافية للشاي في الحياة اليابانية. ويجادل بأن البساطة التي ارتبطت بحفلات الشاي أثّرت على الثقافة والفنّ والهندسة المعمارية في اليابان.
أوكاكورا كان فيلسوفا وخبيرا فنّيا وأمين متحف. وكان وقت ظهور كتابه مديرا للفنون الآسيوية في متحف الفنون الجميلة في بوسطن. وأثّرت أفكار كتابه على أعمال فنّانين بارزين مثل فرانك لويد رايت وجورجيا أوكيف وغيرهما.
لم يكن أوكاكورا معروفا كثيرا وقتها، لكنه سيبرز كواحد من المفكّرين المرموقين في أوائل القرن الماضي. وقد وُصف بأنه كان يتمتّع بالذكاء والبصيرة الثاقبة. وكان مسؤولا إلى حدّ كبير عن مدّ الجسور بين الثقافات الغربية والشرقية بعد أن تعلّم التحدّث باللغة الإنجليزية في سنّ مبكّرة.
استكشاف أوكاكورا لثقافة الشاي كان مشبعا بإيمانه بأن الشرق والغرب يمكن أن يتعايشا في سلام. وبعد أن أصبح عنصرا أساسيّا في الحياة الغربية، بدا له الشاي "أو الكهرمان السائل كما يصفه" المادّة الوحيدة التي يمكن أن تتدفّق بسلاسة عبر الحدود الثقافية. يقول: من الغريب أن الإنسانية تلتقي اليوم على فنجان شاي". وهو يتأمّل في جميع عناصر حفل الشاي، بدءا من قصّة مؤسّس طقوس الشاي في القرن السادس عشر، أي راهب الزِّن ريكيو، وحتى الهندسة المعمارية للمقاهي والماء المثالي لصنع الشاي وما الى ذلك.
والكتاب لا يخلو من الأحاديث الفلسفية والتشبيهات اللغوية الجميلة كمثل قول المؤلّف: لا يجب أن يُعلّم الناس كيف يكونون فضلاء، بل أن يتصرّفوا بشكل صحيح". ومثل قوله: في العنبر السائل داخل الخزف العاجي، يمكن للمبتدئين أن يلمسوا تحفّظ كونفوشيوس ونكهة لاو تسو والرائحة الأثيرية لساكياموني." وأيضا قوله: نحن دائما نتعامل بوحشية مع أولئك الذين يحبّوننا ويخدموننا في صمت، ولكن قد يأتي الوقت الذي يتخلّى فيه أفضل أصدقائنا عنّا بسبب قسوتنا".
وبحسب أوكاكورا فإن طقوس الشاي القديمة هي مزيج من البوذية والزن والطاوية. وقد وُظّفت تلك الطقوس لتعزيز الانضباط العقلي والقرب من الطبيعة التي كان من المأمول أن تؤدّي إلى التنوير.
وفي مكان آخر من الكتاب، يصف أوكاكورا العالم بأنه مكان قذر وصعب، وأن لحظة التأمّل التي يوفّرها حفل الشاي الياباني تساعد الشارب على توضيح مكانه في العالم الفوضوي".
ثم يعبّر الكاتب عن قلقه من أن البشر صارمون للغاية ودائمون في العالم. وبدلاً من هذا التموضع الثابت، يقترح عليهم أن ينفتحوا على ما يسمّيه بـ "الحماقة الجميلة للأشياء". كما يدعو إلى فلسفة أكثر مرونة وأكثر تكيّفا، ويشير إلى أن فكرة الشاي تساعد الناس على تقدير لحظات الحياة القصيرة التي تتسرّب بسرعة مثل البخار الساخن المتصاعد من كوب شاي.
يقول أوكاكورا إن الهدف الذي سعى لتحقيقه من وراء تأليف "كتاب الشاي" هو جعل القارئ يفكّر في الشاي كما يفكّر في الفنّ أو الدين. ثم يُدلي بتعليقات متكرّرة حول حالة العالم، فيرى أن الديانات القديمة توفّر الراحة والطمأنينة في عالم من المعاناة والقلق. كما يعتبر أن كلا من الطاويّة والشاي ذاتا صلة بالعصر الحديث "الذي يؤكّد المؤلّف نفوره منه في كلّ مناسبة". ويذكّر القارئ بأن حالة العالم نادراً ما تتحسّن، لذا فإن أساليب التكيّف معه تُعتبر مهمّة بمثل أهميّة الشاي".


ويعترف الكاتب بأن معظم الغربيين ينظرون إلى استهلاك الشاي على أنه أمر عرضي. والسبب هو أنه ليس لدى العالم الغربيّ الطقوس اليابانية أو الإطار الفلسفيّ المبنيّ على لحظات من الحياة اليومية. ويخبر القارئ أن حفلات تقديم الشاي مهمّة لأنها تتضمّن معرفة صوفية، ويمكن أن تكون لحظات روحانية مثل التأمّل أو الصلاة.
كما يرى أوكاكورا أن الفلسفة تشجّع الناس على تحويل الأعمال المنزلية البسيطة إلى فرص للتفكير في حياتهم، وأن غرفة الشاي هي المكان الذي يتحقّق فيه هذا التعليم. كما يشير الى أن التنظيف وإزالة الغبار من البيت هما امتداد للرسالة الأساسيّة لعقيدة الشاي والمتمثّلة في أنه حتى العمل الروتيني يمكن أن يصبح فرصة لمعرفة المزيد عن العالم.
ويسرد المؤلّف قصّة عازف قيثارة أسطوري كانت مهارته تتمثّل في أنه يفهم آلته الموسيقية ويعرفها حقّ المعرفة. وبينما حاول موسيقيّون آخرون فرض أفكارهم وأغانيهم على القيثارة السحرية، كان العازف هو الذي يسمح للآلة باختيار الأغنية المناسبة. وبالنتيجة فإن فهم ذلك العازف للتفاعل بين الفنّ والفنّان هو ما سمح له بإنتاج مثل تلك الموسيقى الرائعة. ويعتقد الكاتب أنه ينبغي لمعلّم الشاي والضيوف أن يفكّروا في التفاعل بين الفنّ والفنّان مثلما فكّر ذلك العازف".
ويكشف أوكاكورا عن نفسه بأنه متشائم، ويشعر بالقلق من أن الافتقار المعاصر للتفكير أو البصيرة أمر مدمّر، وأن العالم يميل الى الحروب والكراهية بدل أن يقدّر الفنّ. ويذهب الى أن فلسفة الشاي توفّر ترياقا طبيعيّا لهذه المشاكل ولعلاج العالم من أمراضه المزمنة وإنقاذه من الدمار الذي يبدو حتميّا.
ثم يتحدّث المؤلّف عن الأزهار ويصفها بأنها "وعاء للعاطفة". والأزهار بنظره تمثّل الحالة المزاجية المحيطة، وهي توفّر الراحة في اللحظات الصعبة وتضيف إلى فرحة المناسبات السعيدة. ويشير الى لحظات الفرح والحزن في الحياة والتي تكون دائما مصحوبة بالأزهار بجميع أنواعها مثل حفلات الزفاف والجنائز وغيرها. ويشير أوكاكورا إلى أن جودة الأزهار الطازجة تجعلها جزءا لا يتجزّأ من حفل الشاي الياباني.
ثم يتحدّث عن قصّة ريكيو (1522-1591) الذي كان معلّما حقيقيّا للشاي الياباني. وقد حُكم عليه بالإعدام لارتكابه جُرما ما. ثم سُمح له باختيار طريقة موته، واختار أن ينتحر طقوسيّا خلال حفلة شاي. ويصوّر أوكاكورا الموت على أنه لحظة رضا فلسفيّ ومهنيّ، فباختيار ريكيو حفل شاي أخير مكانا لقتل نفسه، فإن هذا الاختيار يُعدّ تجسيدا لكلّ ما ناضل من أجله في حياته.
ويضيف المؤلّف أن حفل الشاي يعلّم التفكير والوعي الذاتيّ اللازم لاحتضان حتمية الموت، وأن معلّمي الشاي وأولئك الذين يعيشون حياتهم وفقا لتعاليم الشاي يفهمون جمال الحياة. إنهم قادرون على الموت بنفس الطريقة التي عاشوا بها، من خلال فهم أن الموت جزء من كلّ أكبر. كما يرى أوكاكورا أن الشاي يعلّم الناس مكانهم في الكون الأوسع وأن أولئك الذين يعتنقون مذهب الشاي ليس لديهم ما يخشونه من الموت لأنهم اكتسبوا رؤية أكبر لواقع الحياة.
ويسرد أوكاكورا في كتابه بعض القصص المعبّرة كقصّة سوشي الذي كان يسير في أحد الأيّام على ضفّة النهر مع صديق له. وبعد برهة صاح سوشي: كم هو ممتع أن الأسماك تستمتع بوقتها في الماء!". فقال له صديقه: أنت لست بسمكة، فكيف تعرف أن الأسماك تستمتع بوقتها؟ فردّ عليه سوشي: أنت لست أنا، فكيف تعرف أنني لا أعرف أن الأسماك تستمتع بوقتها؟".
وهناك قصّة أخرى عن ريكيو صانع الشاي الذي كان يراقب ابنه في أحد الأيّام وهو يكنس ويسقي ممرّات الحديقة. وبعد أن انتهى الابن من مهمّته قال له ريكيو: لم تنظّف بما فيه الكفاية". ثم طلب منه المحاولة مرّة أخرى. وبعد ساعة من العمل المرهق، عاد الابن إلى ريكيو وقال له: يا أبي، لم يعد هناك ما يجب القيام به، فقد غسلت الدرج للمرّة الثالثة ورششت الفوانيس الحجرية والأشجار جيّدا بالماء وأصبحت الطحالب تتألّق بضوء ساطع ولم أترك غصنا ولا ورقة على الأرض".
فقال صانع الشاي: أيها الشاب الغِرّ، ليست هذه هي الطريقة التي ينبغي بها كنس طريق الحديقة". قال ريكيو هذا ثم دخل إلى الحديقة وهزّ شجرة ونثر فوق الأرضية أوراقا ذهبية وقرمزية وبقايا من ديباج الخريف. ما طالب به ريكيو لم يكن النظافة لوحدها بل العناصر الجمالية والطبيعية أيضا.
ويصوّر المؤلّف معلّم الشاي على أنه أمين اللحظة الفنّية التي يتمّ فيها تشجيع الضيوف على احتضان المعنى الأعمق لحفل الشاي. كما أن معلّم الشاي هو منشئ الحفل وهو الذي يلعب دورا مهمّا في تنفيذه، وبالتالي يصبح هو نفسه قطعة فنّية في حدّ ذاتها.
أوكاكورا هو أيضا شخص يفتخر بالموت حتى لو لم يعترف بذلك. وكتاباته عن الثقافة والتاريخ مشوبة بالتشاؤم. ويبدو الموت المجيد للأزهار نهاية مناسبة لأشخاص مثله حاولوا قبله شفاء العالم من أمراضه وفشلوا.

Credits
gutenberg.org