لكن المشكلة تكمن في أن أفكار هذين الفيلسوفين المحنّكين قُرئت وفسّرت من قِبَل أشخاص رأوا فيها ما هو مهمّ لهم. ففي سياقها الإنساني، غالبا ما تُشوّه الأفكار وتُستخدم لأغراض أنانية. وهذه مشكلةٌ رئيسيةٌ للمثقّفين، فهم يفتقرون إلى الحسّ السليم عن العالم الخارجي، وأفكارهم تصبح هشّةٌ للغاية في سياق المال والحرب والسلطة. وعند انتزاع الفكر ومحاولة تطبيقه في عالم البشرية المعيب، فغالبا ما تُقتل روح الشيء، ما يؤدّي إلى نتائج كارثية.
إن قراءة نيتشه، بحسب غِيب، تعني الوقوع تحت تأثيره. كتاباته، الزاخرة بالصور الملحمية والقوّة العاطفية، تشكّل خطرا، لأن فيها تمجيدا للبطولة والعفوية اللتين تستدعيان شيئا عميقا في قلب الإنسان البدائي، ألا وهو الحيوان. فهل يُدهشنا أن كثيرا ممّا كتبه قد لامسَ أسوأ ما في النفس البشرية؟!
نادى نيتشه بالسوبرمان. فاستجاب موسوليني وهتلر للنداء. ولا يهمّ إن كان نيتشه يحتقرهما على الأرجح، باعتبارهما منحرفَين عن عقيدته، وكان سيعارضهما بشدّة. ولا يهمّ حتى لو لم يكتب نيتشه قطّ، فعلى الأرجح سيصل هذان الشخصان الى السلطة على أيّ حال وبالكيفية التي وصلا بها. وقد وجدا في كلامه فائدة لهما، وهو ربّما لم يكن يقصد ذلك.
لكن نيتشه قد يكون أخطأ في تمجيده للقوى الفردانية المتطرّفة وتأكيد الذات. ففي عالم البشرية الحقيقي المليء بالأرواح الكئيبة ذات الأهواء الحيوانية الكامنة تحت ستار التحضّر، توجد قوى خطيرة قد تؤدّي، إن لم يُكبح جماحها، إلى كارثة.
إن المبادئ الإنسانية الخيّرة مثل محبّة الجار والتواضع هي تحديدا ما يقيّد الجانب المظلم من الإنسان. ما الذي تُشعله غريزة القوّة في قلب الإنسان؟ الأفضل أم الأسوأ؟ ولأيّ غاية ينبغي أن توجَّه القوّة في نهاية المطاف؟ لا يجيب نيتشه مباشرة على هذه الأسئلة، مع أنه يمكن للمرء أن يفترض ويستدلّ.
كان الرجل مولعا بالكتب والجامعات، ونشأ محاطا بحبّ أنثوي شغوف في أسرة مسيحية متديّنة. مهنيّا، عمل أستاذا جامعيا، ثم كاتبا منعزلا، ولم تكن له عائلة ولا علاقة حبّ تليق باسمه. كما أنه لم يخدم كجنديّ قط، ولم يقتل أحدا في حياته، ولم يرَ أحدا يموت موتا عنيفا. ولو كان الأمر مختلفا، لكان أكثر حذرا في تمجيد فضائل الأقوياء والمتسلّطين.
قراءة نيتشه غالبا ما تسحرنا، فنثره يتمتّع بجمال وقوّة لا علاقة لهما بمنطق فلسفته، فهو صاخب بروح الشعر. وكفيلسوف، ربّما أجاد الكتابة أكثر مما أفاد نفسه، فالمرء يُفتن بشغفه وعاطفته أكثر من استدلاله. ونيتشه يشبه هوميروس روحيّا، إذ يُشيد الأخير بأوديسيوس على الرغم من قتله أشخاصاً أبرياء. ومع ذلك، ومهما كان السبب أو الحاجة، فإن قتل إنسان يُعدّ دائما أمرا خطيرا ومأساويّا لمن يمتلكون حسّا أخلاقيّا وضميرا حيّاً.
جون ميلتون كتبَ أن السيطرة الواقعية والفعّالة على الشرّ والفوضى تعتمد بشكل كبير على "القوانين غير المكتوبة للتربية الفاضلة والتنشئة الدينية والمدنية". وعندما ينفصل مجتمع عن ماضيه سعيا وراء مجد متوهّم، فإنه يكون على وشك السقوط في الهاوية. وكما أظهرت الثورتان الفرنسية والروسية والدكتاتورية النازيّة والعديد من حالات العنف السياسي الأخرى في المائتي عام الماضية، فإن حلم حرق كلّ شيء لبناء "مجتمع جديد" أو "إنسانية جديدة" من وسط الرماد قد ثبت أنه كابوس.
ويختم غِيب كلامه بالقول: سأحبّ الإنسان كما أجده، قاسيا كان أم ليّنا، خيّرا أم شرّيرا، وليس شيئا يمكن "التغلّب عليه". وعلى عكس نيتشه، رأيتُ أشخاصا يموتون موتاً عنيفا من شدّة الألم، وأحيانا التقيتُ بمن قتلوهم. ولهذا السبب، لا يسعني إلا أن أشعر بالاشمئزاز والازدراء عندما أقرأ نيتشه. كلّنا مخلوقات ناقصة وضعيفة، بمن فيهم هو نفسه. حتى أصحاب العقول الجامحة لا يمكن أن يكونوا أحرارا، فمن عواطفهم المندفعة تتشكّل أغلالهم.